نور لا ينطفئ في محراب الخلود
نوري جاسم
حين تحل ذكرى استشهاد الإمام علي عليه السلام، تتجدد في القلوب جذوة العشق الإلهي، ويتجلى لنا النور الذي لا ينطفئ، نورُ من كان سرَّ التصوف والعرفان، ومفتاح الحكمة، ومن اجتمعت فيه كل صفات الكمال الإنساني، ولم يكن الإمام علي عليه السلام مجرد خليفة أو قائد، بل كان تجلِّيًا للولاية الإلهية في أبهى صورها، سيفًا في الحق، ولسانًا في الحكمة، وقلبًا نابضًا بالمحبة لكل من قصد سبيله، ومقامه الروحي عالي، وهو الحكيم العارف بالله، وفي فكر الطريقة العلية القادرية الكسنزانية يُنظر إلى الإمام علي عليه السلام نظرةً تتجاوز الأحداث التاريخية إلى البعد الروحي العميق. فهو بابُ مدينة العلم، والمعلم الأول للسالكين في طريق الله، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة، وجب عليه أن يشرب من نبع معرفته الصافي، لأنه النهر المتدفق بالحكمة، الذي لا ينضب ولا يجف، وحين كان يرفع سيفه، لم يكن يرفع الحديد، بل كان يرفع راية العدل الإلهي، يقطع الظلم، ويمهد الطريق للنور، وعندما كان يجلس في المسجد أو في رحاب بيته، كان بحرًا من العلوم والمعارف، تفيض حكمته على القلوب العطشى للحق، ولم يكن الإمام علي عليه السلام مجرد رجل شجاع أو خطيب بليغ، بل كان روحًا سارية في كل من سلك درب التصوف والعرفان، ومنه أخذ الأولياء والعارفون سرّهم ونورهم، وأن استشهاده هي انتصار الروح على المادة،في فجر التاسع عشر من رمضان، حين ضربته يد الغدر، ولم تكن تلك الضربة إلا إعلانًا عن ولادة نورٍ جديد، نورٍ امتدَّ ليضيء قلوب العاشقين إلى يومنا هذا، وحين سال دمه الطاهر في محراب الكوفة، لم يكن مجرد دمٍ بشري، بل كان جوهر المحبة، وماء الحقيقة، الذي سقى به العالم دروس الإيثار واليقين، إن شهادة الإمام علي عليه السلام ليست نهاية، بل بداية أبدية للروح التي لا تموت، للرسالة التي لا تنتهي، إنها إعلانٌ بأن العدل لا يُقتل، وأن المحبة لا تُهزم، وأن السالكين في طريق الله لا يعرفون الفناء،والإمام علي في فكر الطريقة الكسنزانية، هو النور الذي يسري في مسالك العارفين، والسر الذي يحمله الأولياء في قلوبهم، وهو مثالٌ على التوازن بين القوة والرحمة، بين المعرفة والمحبة، بين الفناء في الله والبقاء مع خلقه. ومنه استلهم أهل التصوف دروسهم في التواضع والعشق الإلهي، فهو القائل: «ما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده ومعه.»عليٌّ باقٍ في الأرواح، وفي ذكرى استشهاده، لا نبكي الإمام علي عليه السلام لأن النور لا يُبكى عليه، بل نتأمل سيرته، ونقتدي بمبادئه، ونحمل رسالته في قلوبنا وأرواحنا. فمن أراد أن يسلك طريق الحق، فليجعل الإمام علي عليه السلام قدوته، ومن أراد أن يعرف أسرار المحبة، فليقرأ كلماته، ومن أراد أن يكون قويًا في وجه الظلم، فليستلهم من شجاعته، السلام عليك يا أمير المؤمنين، يا مظهر العرفان، ويا سيف العدالة، ويا باب الحكمة. نورك خالدٌ فينا، ما دامت الأرواح تتوق إلى الحق، وما دام العشق الإلهي يسري في قلوب العارفين، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ..