بعد أن فشلت المنظومة السياسية.. التلقين جرثومة التعليم القاتلة
محمد الربيعي
التلقين هو احد الاساليب التعليمية القديمة التي تعتمد على نقل المعلومات بشكل مباشر من المعلم الى المتعلم، دون اتاحة الفرصة للمتعلم للتفكير او التحليل او النقد. وعلى الرغم من ان التلقين قد يكون مفيدا في بعض الحالات، الا انه يعتبر بشكل عام احد الاسباب الرئيسية لتخلف التعليم.
كثيرا ما تنتشر مقاطع فيديو تتناول ما يعرف بـ”جراثيم التعليم”، والتي تزعم ان فنلندا تخلصت منها لتصبح في طليعة الدول الرائدة في التعليم ومناهجها الحديثة. هذه المقاطع تؤكد على ان التخلص من الواجبات المنزلية والاختبارات المرهقة وكثافة المواد والدروس الخصوصية هو سر نجاح فنلندا. ولكن في الحقيقة، لم تتخلص فنلندا من هذه الامور بشكل كامل، كما انها لا تزال متبعة في عدد من الدول الاخرى المتفوقة في التعليم، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والسويد وهولندا وغيرها من الدول المتقدمة. ما تشترك فيه هذه الدول هو اعتماد انظمة حديثة لتقييم الطلاب ورفع معايير اختيار المعلمين والتركيز على تطوير المناهج الدراسية خاصة في مجالات الرياضيات والعلوم. ومع ذلك، فان ما اغفلته هذه المقاطع هو ان السبب الرئيسي المشترك لنهضة فنلندا وبقية الدول المتفوقة هو نبذها للتلقين.
التلقين، بكونه اسلوبا تعليميا يعتمد على الحفظ والاسترجاع، يقيد العقل ويحد من القدرة على التفكير الابداعي والتحليلي، مما يؤدي الى جمود الفكر. كما ان المتعلم الذي يعتمد على التلقين لا يكتسب المهارات اللازمة لحل المشكلات بشكل مستقل، بل يعتمد على الحلول الجاهزة التي يتلقاها، مما يضعف قدرته على مواجهـــة التحديات.
عملية مملة
بالاضافة الى ذلك، يجعل التلقين التعلم عملية مملة وغير ممتعة، مما يقلل من دافعية المتعلمين ورغبتهم في التعلم، ويعزز السلبية والاعتماد على الاخرين، حيث لا يشجع الطلاب على طرح الاسئلة او التعبير عن ارائهم.
التفكير النقدي، في المقابل، كونه عملية تحليل المعلومات وتقييمها بشكل موضوعي واتخاذ القرارات بناء على الأدلة والحجج، يمثل بديلا قويا للتلقين، فهو يمكّن المتعلمين من فهم العالم من حولهم بشكل افضل من خلال تحليل وتقييم المعلومات بموضوعية، كما يساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة بناء على الادلة والحجج بدلا من الاراء والمعتقدات الشخصية. بالاضافة الى ذلك، يساهم التفكير النقدي في حل المشكلات بشكل فعال من خلال تحليلها وتحديد الحلول الممكنة وتقييمها بموضوعية، واخيرا، يتيح التعبير عن الاراء بشكل فعال والدفاع عنها بالادلة والحجج.
تجارب الدول المتقدمة
لقد ادركت الدول الصناعية والمتقدمة منذ فترة طويلة ان التلقين يقيد الابداع والابتكار، وهما المحركان الاساسيان للتقدم والازدهار.
لذلك، قامت هذه الدول باجراء تغييرات جذرية في انظمتها التعليمية، واستبدلت التلقين بالتفكير النقدي كركيزة اساسية لثورتها التعليمية. على سبيل المثال، في فنلندا، حيث يعتبر التعليم من افضل الانظمة التعليمية في العالم، يركز بشكل كبير على التفكير النقدي وحل المشكلات من خلال التعلم القائم على المشاريع والتعلم التعاوني، وتقييم الطلاب بناء على مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات، وليس فقط على حفظ المعلومات. وفي كوريا الجنوبية، التي شهدت تحولا اقتصاديا هائلا في العقود الاخيرة، يلعب التفكير النقدي دورا حيويا في التعليم من خلال اسلوب التعليم القائم على المناقشة وتشجيع الابتكار والابداع.
وفي اليابان، يتم التركيز على تعليم الطلاب كيفية التفكير بشكل منطقي وتحليلي، وكيفية استخدام هذه المهارات في حل المشكلات واتخاذ القرارات من خلال اسلوب التعليم القائم على حل المشكلات والعمل الجماعي. وقد اثبتت هذه الدول ان التفكير النقدي هو احد اهم العوامل التي تساهم في تحقيق التقدم والازدهار.
فالمجتمعات التي تعتمد على التفكير النقدي تكون اكثر قدرة على الابتكار والتكيف مع التغيرات، وتكون اكثر قدرة على حل المشكلات المعقدة التي تواجهها.
ختاما، يتضح جليا ان التلقين يمثل عائقا حقيقيا امام تطور التعليم، بينما يفتح التفكير النقدي افاقا واسعة نحو المعرفة والابداع.
هذا النهج ليس مجرد نظرية، بل هو واقع ملموس تجسد في تجارب الدول المتقدمة مثل فنلندا، وسنغافورة، وهولندا، والسويد، والمملكة المتحدة، وغيرها، التي وضعت التفكير النقدي في صلب انظمتها التعليمية.
ان تبني الانظمة التعليمية في العالم العربي للتفكير النقدي ليس خيارا، بل ضرورة ملحة لمواكبة تحديــــات العصر. يجب ان ننتقل من ثقافة الحفظ والتلقين الى ثقافة التحليل والابتكار، حيث يتم تشجيع الطلاب على طرح الاسئلة، والتفكير بشكل مستقل، وتطوير مهاراتهم في حل المشكلات واتخاذ القرارات.
خطوة حاسمة
بدون هذه الخطوة الحاسمة، ستظل الشعوب العربية حبيسة دائرة التخلف في مجالات الصناعة والابتكار. لن نتمكن من بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ولن نستطيع المنافسة في عالم يتسم بالتغير السريع والتقدم التكنولوجي. ان الاستثمار في تنمية مهارات التفكير النقدي لدى ابنائنا هو استثمار في مستقبلنا ومستقبل اجيالنا القادمة.
بروفيسور متمرس ومستشار دولي في التعليم