لقد اقتنع العالم بأن أنظمة تداول السلطة الدورية المتوقفة على نتائج الانتخابات الحرة الديمقراطية، هي السبيل الأفضل لادارة حياة الشعوب. هذه القناعة قامت على حسابات وتجارب، وكذلك على اشتراطات موضوعية في درجات تقدم المجتمعات في الوعي والتنظيم والخلق السياسي ونضج مؤسسات عمله. وبعكسها تتحول ديمقراطيات تداول السلطة الدورية الى فرص نهب وتنصل عن المسؤوليات التاريخية في حياة الشعوب.
لقد بدأت تطبيقات الانظمة الديمقراطية في اوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول مع تداعيات النهضات العلمية والتقنية والاقتصادية والثورات الصناعية والزراعية والسياسية والثقافية، وترسيخ مؤسسات ادارتها. وهذا يعني أنها لم تكن لتجد لها من طريق الى تطبيقها دون الوعي العام باهميتها والقدرات الاقتصادية وحتى العسكرية والأمنية لحمايتها، من ناحية، وبامكانات تطبيقاتها النزيهة من ناحية اخرى.
هذه النهضات وذاك التطور لا يقوم الا من أجل وبواسطة البشر المعنيين بتلك النهضات وذلك التطور، والتي يجب الوقوف عليها في كمها ونوعها وتركيباتها وحاجاتها وميولها وقدراتها، وهو ما توفره بيانات وتحليلات التعدادات السكانية، والتي يجب ان تكون دقيقة ونزيهة وشاملة.
هذه التعدادات تشكل مادة ثمينة للدراسة والبحث والتحليل، من ناحية، وتحدياً وفرصة للساسة والمختصين في كثير من المجالات من ناحية أخرى. انها تكشف عن طرفي معادلة في امكانات ذلك الشعب وطبيعتها من جهة، وعن احتياجاتها المادية والمعنوية من جهة أخرى.
كما ان الوقوف على معدلات النمو من خلال حسابات معدلات الولادات والوفيات، وتركيباتها العمرية ما يرسم من صورة للهيكل الديموغرافي في شكله ومعانيه.
ان الساسة يجب ان يدركوا ما تعنيه زيادة السكان في ما يحتاجونه من غذاء ودواء وكساء وايواء، وما يمكن ان يقدمونه من انتاج وانجاز. ورجال الاقتصاد يجلسون يحسبون معدلات النمو الاقتصادي في انتاجه واحتياجاته واستهلاكه وتداعياته، في حين يعكف علماء النفس والاجتماع على دراسة مستجدات طبيعة المشاكل وعلاقات البشر وتطورات ميولهم وحتى قيمهم واخلاقياتهم. فالمجتمعات الصغيرة غيرها الكبيرة، والزراعية غير الصناعية، والرعوية غيرها الرقمية.
ان الجميع يجلس يرى ويدرس ويخطط وبأمل ويرجو، بيد انه بحاجة الى بوصلة فلسفية واخلاقية ووطنية للإستهداء بها في وضعه للأهداف والسياسات.
بعد أيام يجري الاعلان عن نتائج التعداد العام للسكان في العراق، وهو تعداد لا أخال أنه يخلو من أخطاء وعدم دقة! ورغم ذلك فهو يشكل قاعدة بيانات.
بيد أننا نفتقد الى كثير من ادوات التحكم في ايراداتنا حيث ريعية اقتصادنا، كما أننا قد نفقد كثيراً من ابنائنا جراء سوء التخطيط وعدم الاستقرار وبوار التعليم وتنامي الحاجات والرغبات المنفلتة، وهو ما يزيد من صعوبات محاكاة المستقبل في امكاناته وحاجاته.
وفي الختام أطرح بعض الأسئلة على الساسة والمختصين بالعلاقة بالتعامل مع معطيات التعداد العام للسكان:
هل تشعرون بكامل الوعي والأمانة والمسؤولية الوطنية تجاه ما تقوله لكم بيانات ذلك التعداد وما تعنيه؟
هل تحسون بكبر المسؤولية والأمانة عما تتخذونه من قرارات سياسية واقتصادية وتنموية على مستقبل شعبكم؟ هل تمتلكون الجرأة والفروسية لتقولون أمام الشعب: نحن أهلاً للمسؤولية، أو تطلبون منهم العفو والانسحاب؟