بخديدي أرضكم
(القسم الثاني)
بيوس قاشا
في البدء...
مرة أخرى أستميحكم عذراً حيث كنتُ قد اعتذرتُ منكم ومن القرّاء الكرام جميعاً في رسالتي الأولى إلى أبناء بخديدا الأحبة التي كانت تحت عنوان "بخديدا... أمّ الشهداء".
وكنتُ قد أدرجتُ المقال في عدة مواقع الكترونية في الثاني من شباط (فبراير) من عام 2019 ومنها مواقع أبونا وعشتار وعنكاوا، وها أنا اليوم أمامكم جميعاً ومرة أخرى، واضعاً مقالي هذا وكتاباتي تحت أنظاركم يا أبناء بخديدا الغالية – بلدتي العزيزة – وعبر مسيرتي الكهنوتية والحياتية، ولكم كل الحق بل الحقيقة بأكملها أن تقولوا ما شئتم، وما تفكر به ضمائركم، وما يطيب لكم من أوصاف، وأن تكتبوا ما هو مبتغاكم، فإنني أؤمن بأفكاركم وآرائكم وأتمنى أن أراكم كلمة وحقيقة في هذه الحياة المتعَبَة كي لا تكونوا سلعة رخيصة كما يريدونها... ليس إلا!.
مناسبات دينية أو رسمية
ما أريده أن لا تكونوا سبباً لموت غيركم وبقية بلدتكم، فالأرض والوطن يناديكما ويقولان لكم: لا تتركانا وحدنا فالذئاب الخاطفة (متى15:7) والثعالب القاتلة تتربّص بكم، لقد جعلوكم أرملة منسيّة في مجتمع غير مجتمعنا، وهؤلاء الذئاب والثعالب قد لبسوا ثوب القداسة والمواطنة وتزيّنوا بزينة الكلام المزركش من بيانات وأقوال واستنكارات. فقضاياهم معروفة لدى الجميع وما هي إلا الجلوس على كراسيكم وفي منازلكم ودور عباداتكم والتي بدأت تفرغ بسببكم فقد تركتموها أمام مصير مجهول وتتردّدون ربما إليها في مناسبات دينية أو رسمية وهذه مسيرة جميلة ولكن عليكم أن تعرفوا أن بخديدا ليست فقط للزيارات الموسمية لمناسبات دينية بل يجب أن تبقوا وتمكثوا فيها وتناضلوا وتطالبوا بحقوقكم الاجتماعية والعملية لأن غيركم يتمنى تفتيت كيانكم وهدم حضارتكم وضياع وجودكم. فإنْ عملتم لزوال ذكراكم فقد عملتم بالمَثَل القائل "بالأمس كانوا هنا، واليوم قد هاجروا" عذراً "قد رحلوا". واعلموا أن الشر محيط بكم لا بل موجود ربما في داخلكم، فهم أنفسهم أحرقوا كنائسكم وبيوتكم ومحلاتكم وقتلوا آبائكم وأجدادكم، واليوم أنتم وأحفادكم ولكن بصور أخرى ليس فقط بالسيف ولكن فتحوا لكم باب الهجرة والرحيل.
من كل قلبي
أدعوكم ومن كل قلبي أن لا تسلّموا أنفسكم لهيرودس الزمان وما أكثرهم اليوم، فهم يلبسون ثوب الكبار والأمراء وإن كان أحياناً مقدساً، إنهم "ذئاب" كما يقول الرب يسوع (متى15:7). كفاكم ما أنتم فيه، فما عليكم إلا أن ترفضوا كلماتهم وترفعوا أصواتكم كما يقول البابا فرنسيس:"ارفعوا دائماً أصواتكم لكبارهم بإسكاتهم كي لا تغيب قيمكم. ولا تكونوا ضحايا للخديعة، فإنّ مَن بيدهم القرار لهم أساليبهم الكثيرة والعديدة والمختلفة ليجعلوكم صامتين" (أحد الشعانين 2018).
نعم، قولوا لهم إننا لا نؤمن بكم ولا بكلامكم ولا بحقيقتكم المزيّفة كي لا نشوّه وجه الله المحب والحقيقة الكاملة. فإنْ تموتون شهداء أفضل من أن تبقون في الحياة بائسون وخانعون أو راحلون ومهجّرون. إمّا أن تكونوا مع يسوع أو ضدّه وبالتالي لا يمكنكم أن تكونوا رماديين فإمّا أن تكونوا سوداً أو أن تكونوا بيضاً ويبقى يسوع الحد الفاصل بينهما.
نعم، إنكم تفتشون عن مستقبل أجيالكم وراحتهم وراحتكم، عن الأمان والسلام، وتقولون أن البلد يلفظنا، وأخرى كثيرة وكثيرة وفي ذلك أقول لكم: ألم تشاهدوا وتقرأوا وتسمعوا عن الراحل البابا يوحنا بولس الثاني كيف عاش في بلدته "كراكوفي" في بولونيا يوم كانت تحت الاحتلال البولوني وتحت الحكم الشيوعي واضطهاداته لكنه قاوم المآسي وبقي ثابتاً على إيمانه بأرضه ووطنه، وحمله ليس فقط على فمه ولكن حمله في قلبه وأحبّه حتى وإنْ كان جريحاً وملقياً على الطريق مثل ذلك الذي قال عنه ربنا يسوع المسيح "وقع بين أيدي اللصوص" (لو30:10) ولكن السامري حمله على دابّته. فالوطن لا يمكن أن نحمله إلا في قلوبنا، والأشخاص اليوم هنا وغداً هناك، يأتون ويرحلون، يكتبون تاريخهم وإنْ كان شراً ومليئاً بالاضطهادات والنزاعات والمآسي والقتل والتزوير والكذب والمصالح و... و... فأسماء كثيرة تُطلق عليهم. فالأرض بحياتها كما الوطن بمسيرته أسمى مني ومنكم ومما أنتم ساعون إليه. فالبكاء على أجيالكم لا ينفعكم إلا لحظات أو سويعات ولكن عليكم أن تعلموا أنهم أولاد الله وهم "أفضل من عصافير كثيرة" (متى31:10 ولو7:12).
فلا تسمحوا للكوارث والمآسي والمحن أن تنهب شجاعتكم وتكسر إرادتكم بل لا تخافوا مما يصيبكم من الآلام فمسيرة الألم هي درب الصليب وقد سار فيها قبلكم ربّكم ومخلّصكم، وستكون القيامة لا محالة ساعة ما أو يوماً ما. وعليكم أن تتذكروا ما فائدة من وجود كنائسكم ومعابدكم ومزاراتكم إذا كنتم أنتم تهجرونها أولاً قبل غيركم. واعلموا أن الوطن لا يقدَّر بثمن ولا يباع لمصالح أو للفساد بل هو غني في ذاته وهو أثمن من عيالكم وأقدس من مقتنياتكم بل وحتى من دمع عيونكم وأجفانكم، فالرب منحكم هذا الوطن لتترعرعوا فيه وتكونوا له شهوداً ورسلاً و"رأى ذلك حسناً" (تك31:1).
فتجشعوا والبسوا ترس الصلاة والإيمان، وثقوا بالذي فداكم على خشبة العار (مز10:95) وكما انتصر قسطنطين الملك وعبر إيمانه بكلام الرب هكذا أنتم تنتصرون بإيمانكم. فعيشوا المحبة بينكم، واتركوا عاداتكم التي تعودتم عليها وربما أبعدتكم عن معابدكم وبيوتكم وعوائلكم وإيمانكم من أجل غايات ولهوٍ دنيوي ونسيتم الأسرار وقيمتها الروحية. كونوا كلمة واحدة علامة لوجودكم وليس لدراهمكم. وكما قلتُ أن الرب يرسلنا كالحملان بين الذئاب ولكن اليوم الذئاب أصبحت أكثر شراسة وهم في عالم الظلمة فأنيابها لا ترحم أحداً، ولكن يريدكم الرب يسوع أن تكونوا ودعاء فالعديد من الناس صار مقتنعاً أنه بالمال قادر على شراء الإنسان وشراء الله، فانتبهوا جيداً.
وأتمنى أن لا يكون ذلك حقيقتكم، فقد عولمتم كل شيء روحي من أجل غاياتكم، فلا تخافوا ولا تكونوا خبزاً للسياسات الكاذبة والفاسدة ولا للمصلحة والعشائرية، كما لا تعملوا للطائفية، فأنتم شعب واحد، مسيحيين ومسلمين وصابئيين وإيزيديين وتركمان وشبك ومكونات أخرى. وانتبهوا، فالمستقبل لا يرحم أحداً، والتاريخ لا يجامل الحقيقة ولا يقبل التزوير وإنْ كان اليوم هو الحقيقة ومع الأسف. فمهما غيّروا أو بدّلوا أو شوّهوا فالحقيقة لا تتبدّل ولا تتغير فقد قال الرب:"أنا الألف والياء، البداية والنهاية" (رؤ8:1) والحقيقة "هي هي أمس واليوم وإلى الأبد" (عبر8:13). فنحن نعيش في عالم تحكمه عقلية تجارية، وما علينا إلا أن لا نتأثر بها بل أن نبرهن أن علاقاتنا البشرية هي انعكاس لمحبة الله المجانية. والمسيحي الحقيقي هو الذي يحب الجميع فيحصل على أعظم مكافأة ألا وهي عيش المحبة بمجانية مطلقة... وإلى القسم الثالث والأخير