مراجعة ذاكرة طالب شبيب
قراءة في كتاب من حوار المفاهيم إلى حوار الدم
ضرغام الدباغ
على مدى أيام شدني كتاب للقراءة، كان قد ألفه صديق / رفيق حزبي “ المرحوم د. علي كريم “ وهو عبارة عن مزج بين مذكرات القائد البعثي طالب شبيب (عضو القيادة القطرية والقومية لحزب البعث العربي الاشتراكي) بين أعوام 1960 / 1963. وملاحظات وتعقيبات مصدر الكتاب د. علي كريم.
طالب حسين الشبيب، كان قد درس الهندسة في بريطانيا، وعاد للعراق عام 1960، وكان قد أمضى سنين في لندن، ترأس فيها أتحاد الطلاب العرب، وأنتمى لحزب البعث العربي الاشتراكي هناك، يتميز بذكاء ملحوظ، وأكسبته الحياة في لندن والعمل مع الطلاب العرب، قدرات على إدارة الندوات، والحوارات السياسية، وكان يتحدث الإنكليزية بطلاقة، وهذه مزايا أكسبته جاذبية سياسية، فوق ذكاؤه وجرأته ما جعلته يتقدم بسرعة بقدراته في صفوف الحزب، وعين في القيادة القطرية (1960) في ظروف النضال السري الصعبة، وبفضل مزاياه هذه، أكتسب ثقة فؤاد الركابي، وعلى صالح السعدي أمناء سر القيادة القطرية، وبصورة أسرع نال ثقة الأمين العام ميشيل عفلق،
إذن طالب شبيب تسلق المواقع الحزبية وبتقديري بسرعة، أن السبب الوحيد لذلك كانت ثقافته، وشخصيته المتحضرة، وذكاؤه، فدخل بسرعة في دماغ المرحوم الركابي، فعينه فورا في القيادة القطرية تعيناً (سداً للشواغر)، وكذلك الحال بالضبط كان مع علي صالح السعدي، الذي وجد في طالب الشبيب شخصية تداعب خياله، وقدرته ومهارته في الحوار مع الشيوعيين واليساريين، لا سيما أن جذوره كانت يسارية، والغريب أنه أصبح لاحقاً من بين أعضاء القيادة يمينياً بوعي وإدراك، وبراغماتياً يجد لنفسه الأعذار ليتحالف مع اليمين من خارج الحزب، فكان العقل المدبر / المخطط للتكتل اليميني داخل الحزب، ولم يجد غضاضة في التحالف مع اليمين من خارج الحزب، وهذه خصلة مارسها اليمين في البعث كما في كل الأحزاب الاشتراكية التي لها موقف رخو عامة حيال اليمين، وفي التحالف مع اليمين من خصوم الحزب، على قبول اليسار من داخل الحزب. وهذا منحى تتخذه حتى بعض الأجنحة اليمينية للأحزاب الاشتراكية في اوربا.
والحزب كان يواجه موقف الزعيم قاسم، الذي كان يحاول أن يعادل كفة صديقه وشريكه، ثم غريمه في القيادة ثم عبد السلام عارف، الذي وجد في التكتل الرأي العام / الحركات السياسية القومية، معسكراً مؤيداً له، وبالمقابل راح الزعيم قاسم يحاول ان يلملم أجنحة وقوى مؤيدة له، فوجد في جمهور البروليتاريا الرثة (الفقراء المعدمين)، واليسار العراقي الذي كان يحاول أن يجهض المسار القومي بأي ثمن (الاسباب غير مقنعة)، وفي الحقيقة، فإن الصراع على السلطة بين القطبين : قاسم وعارف، ولخلو الثورة من أي مشروع أو برنامج عمل، فهي كالسفينة التائهة بلا بوصلة في بحر متلاطم الأمواج بلا خارطة طريق، وبلا ربان حكيم، ولا حتى شبه برنامج، وجماهير يسهل التلاعب بالألفاظ بكلمات (دينية أو يسارية) من اجل توجيهها، وخير دليل على ما نقوله، هو الشعارات العفوية البسيطة، وتكعويعات الزعيم (الاستدارات المفاجئة) المتناقضة الفارغة تقريباً من أي محتوى، من موقف لأخر بسهولة، وبالرغم من وجود كفاءات تقدمية علمية مهمة كالاستاذ إبراهيم كبة وطلعت الشيباني(التي حققت بعض النجاح)، فأن خطط الزعيم الاقتصادية كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى إبهار الشارع العراق بمكاسب تعزز مكانته بين جماهير الشارع العراقي، فكان هناك ميل شديد للمشاريع الخدمية (تجميل المدنية) الضئيلة الجدوى بدلاً من مشاريع البنى الارتكازية Infrastructure)) الاقتصادية العميقة الجدوى كمدخل ضروري وحتمي للتنمية.
خلق الزعامة
واجهت قيادة فؤاد الركابي للحزب ومعه مجموعة ذكية من القادة: علي صالح السعدي، حازم جواد، وطالب شبيب، هذا المستوى من العمل الجماهيري(الدعائي / التحريضي) بشكل سليم، وذكي، مع توقع حتمي أن هذا الاتجاه (تقديم مشاريع خدمية سريعة وسهلة) سوف لن يكون لها مدى بعيد، وهذا لا يلبي حاجات الناس الأساسية، ولكن الزعيم كان بحاجة للتصفيق والهتاف، ليخلق زعامة تواجه زعامة عبد الناصر، وفاته أن زعامة عبد الناصر حققت الكثير لأن برامجه كانت اجتماعية / اقتصادية، تأميم القناة، السد العالي، التصنيع الكثيف، فيما كان الزعيم يصر على تنفيذ مشاريع خدمية جميلة فنياً ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
واجهت قيادة الركابي/ السعدي/ جواد/ شبيب، ثقافياً / ودعائياً، أن مكتسبات الزعيم السريعة السهلة، القليلة الفائدة، التي كانت الفقرة الأساسية في العمل الدعائي لنظامه، في التأكيد على أنها قصيرة المدى، وبالفعل ايتدأت المشكلات والتناقضات تحاصر نظام قاسم، فأبتدأت الاشتباكات في شمال العراق، والتصرف بشكل انتقامي حيال انتفاضة الشواف، ثم أستفز الجيش والشعب بإعدامات سياسية، وحين انتفضت الجماهير، وجد الحل في قمعها، ثم أن حتى الحزب الشيوعي وجدها عملية عبثية بالاصطفاف خلف ضابط، وحكم عسكري فردي يطرح نفسه كزعيم أوحد(كان هذا لقبه الرسمي)،
وابتدأت التناقضات تغلب التحالف البراغماتي المؤقت، وأبتدأ المد الشعبي بالانحسار، ومعه شعبية الحزب الشيوعي بالتراجع، فالحزب الذي أستطاع تعبئة مليون شخص في تظاهرة 1 / أيار / 1959، وكان يمتلك تنظيما حديدياً حتى في القوات المسلحة، بدأ يتراجع، وليس أبلغ مما قاله جلال الاوقاتي، ويخيل لي أنه كان القائد الشيوعي الوحيد الذي أستشف بحنكة بوادر التراجع. كما كتب ثابت حبيب العاني“ شعر المكتب السياسي للحزب بالحاجة إلى تنشيط „اللجنة العسكرية“، بعد أن كنا قد أهملناه، فقمنا بتطهير التنظيم العسكري الحزبي من الانتهازيين والوصوليين والقاسميين من الضباط. وبرزت فكرة الاستيلاء على السلطة. وينقل القائد العاني عن القائد العسكري الشيوعي جلال الاوقاتي قوله وتشخيصه المهم والعميق „ لو أصبح عبد الكريم قاسم سكرتيرا للحزب الشيوعي العراقي، لوجب أن نزيحه لأنه سيدمرنا ويدمر نفسه „ وكان هذا القائد الحكيم (الاوقاتي) قد توسل بعبد الكريم قاسم لدرجة تقبيل يده ليعف عن القادة القوميين، الذي أعدمهم لأسباب مزاجية.ويذكر ثابت العاني في كتابه أن „ الحزب الشيوعي العراقي كان لديه 500 ضابط شيوعي في الجيش العراقي، من رتبة ملازم إلى رتبة عميد، وألف ومئتين ضابط يدفعون اشتراكات للحزب الشيوعي، وثلاثة ألاف جندي وضابط صف أعضاء في الحزب الشيوعي „. ولكن هذا التنظيم الكبير كان قائما على أساس الكسب السريع، (وهذا خطأ شائع) ولذلك كان التنظيم العسكري الشيوعي يعج بالانتهازيين والوصوليين والقاسميين يصعب التعويل عليه، كما ذكر مسؤول التنظيم ثابت العاني. وكما نشأ بسرعة، أنهار بأسرع مما نشأ،
وحين قامت زمرة من شباب البعث بمحاولة اغتيال الزعيم رداً على طغيانه، كان ذلك انذاراً بتفاقم التناقض وإشارة مهمة لقدرة الحزب على النهوض، ومواجهة المصاعب، والحزب الشيوعي العراقي فهم بدقة هذا الإنذار، وحاول إعادة ترتيب صفوفه، إلا أنه وبتقديرنا، أن الحزب الشيوعي العراقي كان يعيش ازدواج عقليات، وعلاقاته الداخلية والخارجية، كان يشوبها الكثير من المؤشرات والمعوقات ولحد الآن ليس مفهوماً بدرجة كافية، لماذا لم تحسن قيادة الحزب الشيوعي استثمار الالتفاف الجماهيري الكبير،
قيادة كفؤة
وقيادة البعث الكفوءة: الركابي/ السعدي/ جواد/ شبيب، ابتدأت العمل بتؤدة على تجريد الزعيم من الالتفاف الجماهيري، بإضعافه تدريجياً من خلال عمل ممنهج ينطوي على : التركيز، والدقة، مع الانضباط الحديدي، والجرأة والشجاعة.
ومحاولة اغتيال الزعيم وإن فشلت (لحسن الحظ) إلا أن البعثيين نجحوا بطرح أنفسهم طرفا سياسيا مهماً في العراق، وقائداً للمعسكر القومي بلا منازع، وسوف يتعزز هذا من خلال :
وفي التشييع الجماهيري الضخم للقائد البعثي / الطلابي عبد الجبار عسل الذي أغتاله الشيوعيون من بغداد (خان حاج محسن) إلى النجف (1959)،
التظاهرات الاحتجاجية على إعدام الضباط القادة (1959).
وكذلك في إضراب البانزين الجماهيري، (1961) تظاهرة استقبال القائد الجزائري بن بلا (100 الف متظاهر) يهتفون باسم الحزب مرحبين بأبن بلا، الذي عبر عن عميق تأثره بقوة البعث في العراق (1962)،
وأخيرا في الاضراب الطلابي الواسع النطاق والناجح، الذي مهد في الواقع لثورة 8 / شباط، التي شارك فيها الجهاز الحزبي بدرجة عالية الدقة والتنظيم.
وقد بلغ قوة تأثير حزب البعث في الجو السياسي العراقي بهذه المناسبات وغيرها عديدة، وذلك بنجاحه بإطلاق مبادرات عديدة، منه الجبهة القومية.
وحتى أن السيد صديق شنشل «أحد القادة التاريخيين لحزب الاستقلال» تقدم كوسيط بعرض من الزعيم قاسم للحزب بتعيين 3 وزراء بعثيين، إلا أن عجلة تغير النظام كانت قد دارت، والمبادرة من الزعيم لإصلاح ذات البين جاءت متأخرة ... بل متأخرة جداً. (ص48)
وفي اجتماعات القيادة القومية ببيروت، كان قد أضحى مفهوماً بدرجة كافية، أن العراق هو مفتاح البعث وطريقه نحو الارتقاء. (ص44)
واختيار الحزب توقيت الحركة في شباط / 1963 كان دقيقاً وجريئاً، فالتراجع والتردد كان سيكون مميتاً، ليس بسبب تطور الموقف الداخلي في العراق، وكان إضراب الطلبة القوي قد بلغ به الذروة، وبعد الذروة، فليس هناك سوى النكوص والتراجع ما لم يتمكن الحزب من استثمارها. واكتشاف نقطة الذروة وتشخيصها، هي بالضبط إحدى مهمات القيادات الكفوءة، وفي العراق كان الموقف قد بلغ هذه النقطة الحاسمة، والتراجع هو المقتل، وحتى القائد جمال عبد الناصر كان قد بدأ يقتنع بعبد الكريم قاسم زعيماً، بعد نجاحه (الزعيم) في أن يشكل مع سوريا محوراً (ص49)
الحزب الشيوعي العراقي أدرك أن الاضراب سيسقط نظام قاسم، وحاولت شخصيات مقربة من الزعيم أن تحذره، ولكن الزعيم قاسم، كان يصم أذنيه، يشك بالجميع ولا يثق بأحد، حتى بأقرب المقربين، وإذا كان الشيوعيون قد أدركوا بعلمهم وتجربتهم وخبرتهم بحتمية سقوط النظام، فإن الزعيم فطن لذلك بغريزته، أدرك بغريزته العسكرية، أن هامش المناورة قد أصبح ضيقاً للغاية، بل أضمحل وأنتهى تماماً. وفات وقت المبادرات المنقذة، أما السفير البريطاني فقد كتب في هذه المرحلة تحديداً، يقول “ أن الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد القدرة على التغلب على مشاكله “ .(ص114)
والزعيم قاسم طيلة فترة حكمه (4 سنوات وستة شهور)، لم يستوعب جوهر السياسة القائمة على اختيار البدائل والممكن من بين الخيارات، والأسوء حين يعتقد قائد عسكري كالزعيم، أنه أوامره يجب أن تطاع، وأن على الجميع أن يفهموا بقدر فهمه هو للمشكلات، وجل ما فعله هو اعتقاده الجازم أن يقيم توازنا بين القوى السياسية العراقية فنجح قليلاً وفشل أكثر، وفق نظرية ( خلي يتعاركون وإلى الصافي ) وهو مع كل خيار يبقيه في الحكم. وفي هذا يقول الوزير محمد حديد (الحزب الوطني الديمقراطي) أن “ الزعيم قاسم كان قومياً ولكن ضغط القوى القومية عليه كان يدفعه للابتعاد عن خطهم “ (110)
وفي مطالعة صفحات الأيام القليلة التي سبقت يوم 8 / شباط، كان نظام قاسم يضرب عشوائياً، وأصابت إحدى ضرباته العشوائية، باعتقال أمين سر القيادة القطرية ومسؤول المكتب العسكري علي صالح السعدي، والعضو البارز في قيادة المكتب العسكري للحزب المقدم الركن صالح مهدي عماش، وأعضاء قيادين في التنظيم المدني والعسكري، ولكن العجلة كانت قد دارت، ويستحيل إيقافها، وكل شيئ كان قد خطط له بدقة شديدة ودراسة وتدريبات عديدة، ورغم المؤشرات والإضاءات خطرة، واصلت القيادة بشجاعة خارقة، وهدوء أعصاب نادرة العمل بثبات (ص50).
في هذا الجو المشحون على القائد أن يحتفظ ب 100% من أعصابه، فلا يتخذ أي قرار مهما كان بسيطاً بناء على الشحن العاطفي أو الحماسي، فمن يصنع غداً تاريخياً عليه أن يبتعد كلياً عن الذاتي، ويلتحم كليا بالموضوعي، فهم كانوا على مرمى حجر من حدث تاريخي خطير للعراق والأمة، وإنقاذ الوطن من أيدي زعيم قد يقدم على أي شيئ يبقيه في الحكم، وحقا يشي بذلك الخطابان اللذان قد كتبهما يوم 8 /شباط، يحرض فيها على القتل والسحل. (ربما بأسوء من نموذج الموصل 1959). وفي الاجتماع الأخير وقبل ساعات قليلة من لحظة الصفر، وضع قادة الثورة اللمسات الأخيرة، وهنا تفوه أحد الضباط المشاركين بالثورة (النقيب عبد اللطيف الحديثي) بكلمات ربما لم يفكر بها، بل قالها عفوية من روحه، ردد بيتاً من الشعر وربما لم يكن يعلم قائله “ (ص57)
أجمعوا أمرهم عشاء فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
(بيت الشعر من معلقة الحارث بن حلزة اليشكري)
وصاحبت في ساعات التنفبذ الأولى، أحداث عجيبة، فقد كان هناك نقص غريب في السلاح، والعتاد، حتى بيد المنفذين الرئيسيين، فلم يكن بيد حازم جواد وطالب شبيب والملازم المرافق لهما رياض القدو، سوى مسدس واحد وغدارة (مسدس رشاش) تبين فيما بعد أنه عاطل عن العمل، ودبابات بلا عتاد تعتمد على ضخامتها وهدير صوتها، معتمدين على فدائية المنفذين وفوق ذلك هناك من يقول أنها جاءت بقطار!
ابتدأ التنفيذ ...يسأل العقيد أحمد حسن البكر النقيب الطيار منذر الونداوي، “ لو افترضنا أن الطقس ليس مؤاتياً للإقلاع فماذا ستفعل “ فيجيبه منذر “ سوف لن يمنعني شيئ عن التنفيذ ولو انطلقت كل رعود وبروق السماء، في الساعة التاسعة أنظر للسماء ستجدني محلقاً “. توفي منذر الونداوي في المهجر(2015) عن عمر 80 عاماً وموقعه في الانترنيت باسم “ منذر الونداوي ... البعث عقيدتي “.
عانق قادة الثورة بعضهم وتعاهدوا على النضال حتى الموت أو النصر.
لم يكن في وارد الحسابات مواجهة الشيوعيون، بل بالعكس فقد أعتقد بعضهم بل غالبية قادة البعث، أن الحزب الشيوعي سيركن للسكون ويراقب الموقف، لاسيما أن الزعيم قاسم كان يلاحقهم في تلك الفترة، وأحد أعضاء قيادتهم في زنزانة الإعدام. فلم يكن متوقعاً منهم مقاومة الثورة. (ص110)
لم يكن في الحساب سوى إعدام عبد الكريم قاسم المسؤول الأول والمباشر عن الحقبة الدموية الأكبر في تاريخ العراق الحديث. أما العميد المهداوي والعميد الركن طه الشيخ أحمد فقد وضعا نفسيهما في هذا الموقف حين رافقا الزعيم إلى لحظته النهائية، والملازم أول كنعان خليل حداد، قتل ضابطان وعدة جنود بسلاحه، وهو لم يكن مضطراً لكل هذا، فذهب ضحية قراره الخاطئ.
الحزب الشيوعي بتقديري أتخذ قراراً خاطئاً بالدفاع المسلح عن الزعيم، ففي الحسابات العقلية أن الأمر لا يستحق هذه الدرجة من التأييد والدعم، ومن يطلع على بيانان للحزب الشيوعي الصادر يوم 8 / شباط، يجد أن هذا الموقف الانتحاري بالكاد يستحق الدفاع عن نظام اشتراكي تقدمي، وحتى الأنظمة الاشتراكية التقدمية في أوربا، لم تلجأ إلى الكفاح المسلح، رغم أن يعضها أنهار على يد قوى رجعية: في بولونيا ورومانيا خاصة.
أستسلم الزعيم ظهيرة يوم 9/ شباط، المقاومة التي ابتدأ يوم 8 / شباط، انتهت صباح يوم 10 / شباط (يومين) عدا المقاومة في الكاظمية أستغرق يوماً واحداً أكثر. ورغم ذلك الكاظمية لم يزد عدد قتلاها عن 6 أشخاص فقط ..! والقتلى أمام وزارة الدفاع، عن 20 قتيلاً. (115)
ويطرح كاتب البحث، ويشترك معه كتاب وباحثون عراقيون وعرب، سؤالاً جوهرياً مهماً “ هل كان يمكن تجنب المواجهات الدموية، كما فعل الشيوعيون السوريون ..؟ (ص 203)
ويقر شيوعيون قياديون عراقيون عديدون، (عامر عبدالله وبهاء الدين نوري)، أن “ المواجهة الدامية لم يكن لها ضرورة، وأنها لم تؤد إلا إلى مجازر لا لزوم لها ولا يمكن تبرئة الشيوعيين العراقيين من مسؤولية إدخال وسائل العنف لحل الخلافات السياسية “ وأكد ذلك ايضاً القيادي صالح دكلة في ندوة ليدن/ هولندة، ومثل هذا أكد أيضا القائد ثابت حبيب العاني ود. عبد الحسين شعبان، عن أمكانية تجنب الصراع الدموي. وهذا الصراع الكبير الذي كلف العراق الكثير جداً كان يمكن تجاوزه. أن الشيوعيون كانوا هم البادئون بأستفزاز البعث وجره لمعركة ومن يقرأ البيانان اللذان أصدرهما السكرتير الأول سلام عادل، يجد أنه يدفع لمعركة مفتوحة لا محال وبلا حدود ولا قيود. ويرغم البعثيين على قبولها وخوضها. (ص196).
هناك فائدة غير ظاهرة من الكتابات التي تنشر عن الأحداث السياسية في شتى الأقطار العربية ولا سيما الأقطار الكبيرة: مصر، العراق، سورية، السعودية، الجزائر، الفائدة تكمن أنها تعكس تعدد الآراء والمواقف والرؤى، وبذلك يخرج القارئ المتلقي من دائرة تفكيره، وتطور مداركه ويدرك ويجد أن هناك منظور آخر من زاوية أخرى، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى توسع وثراء في الفكر السياسي العربي. المهم أن نكتب بموضوعية ونقرأ مع استعداد أولى لتطوير ثقافتنا وبالتالي مواقفنا.
العراق باق ... وسوى ذلك سيزول ...!