الوجود المسيحي في العراق بعد 2003
انوار داود الخفاجي
يُعتبر ميلاد السيد المسيح، الذي يُحييه المسيحيون حول العالم في الخامس والعشرين من ديسمبر، حدثًا ذا أهمية روحية وتاريخية عميقة. فهو يمثل بداية رسالة المحبة والسلام التي نادى بها السيد المسيح، وهي رسالة تتجاوز الحدود العرقية والدينية لتحمل للعالم أجمع قيم التسامح والتآخي. في العراق، يحمل هذا الميلاد رمزية خاصة للمسيحيين، الذين يُعدّون من أقدم المكونات الدينية في هذا البلد، إذ تعود جذورهم إلى القرن الأول الميلادي. لكن بعد عام 2003، مرّ الوجود المسيحي في العراق بتحولات كبيرة أثّرت على وجودهم ودورهم في المجتمع.
في العراق، كان الاحتفال بميلاد المسيح يُعتبر حدثًا مميزًا وسط أجواء من الفرح والروحانية. تقام القداديس في الكنائس، وتُرفع الصلوات من أجل السلام والمحبة، وتُزيَّن المنازل بشجرة الميلاد والمغارة التي تُجسد ولادة المسيح.
كانت المدن ذات الأغلبية المسيحية، مثل قراقوش (بغديدا) وتلكيف وبرطلة، تشهد احتفالات مميزة تعكس التقاليد العريقة لهذه الطائفة. ورغم الأوضاع التي مر بها العراق على مدى عقود، ظل المسيحيون يحتفلون بهذا العيد باعتباره رمزًا للأمل والتجدد.
استهداف مباشر
بعد سقوط النظام السابق في عام 2003، دخل العراق في مرحلة جديدة من التغيرات السياسية والاجتماعية، والتي أثرت بشكل كبير على المسيحيين العراقيين. كانت هذه المرحلة مليئة بالتحديات، حيث عانى المسيحيون من الاستهداف المباشر والاضطهاد على خلفية طائفية ودينية.
ظهرت جماعات متطرفة استهدفت المسيحيين بالقتل والتهجير، وهُدمت العديد من الكنائس على يد تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة» و»داعش».
أدت هذه التحديات إلى تهجير أعداد كبيرة من المسيحيين من مناطقهم التاريخية، خاصة في الموصل وسهل نينوى.
ووفقًا للإحصاءات، كان عدد المسيحيين في العراق قبل عام 2003 يقارب 1.5 مليون نسمة، ولكن هذا العدد تراجع بشكل كبير ليصل إلى أقل من 300 ألف بحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. هاجر العديد منهم إلى بلدان مجاورة مثل الأردن ولبنان، أو إلى دول غربية مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا بحثًا عن الأمان والاستقرار.
مناطق محيطة
كان عام 2014 نقطة تحول مأساوية في تاريخ المسيحيين في العراق، حين اجتاح تنظيم «داعش» مدينة الموصل والمناطق المحيطة بها. أُجبر المسيحيون على ترك منازلهم تحت التهديد، وتم تدمير عدد كبير من الكنائس والمواقع الدينية التاريخية. كما تم الاستيلاء على ممتلكاتهم، وواجهوا تهديدًا مباشرًا بفرض الجزية أو الإعدام إذا لم يعتنقوا الإسلام.
رغم هذه المحن، لم يفقد المسيحيون العراقيون الأمل. بعد تحرير الموصل وسهل نينوى من سيطرة «داعش» في عام 2017، بدأت بعض العائلات بالعودة إلى مناطقها لإعادة بناء حياتها ومجتمعاتها. شهدت مدن مثل قراقوش جهودًا لإعادة الإعمار بمساعدة الكنائس المحلية والمنظمات الدولية. كما لعبت الكنيسة دورًا كبيرًا في دعم النازحين وإعادة إحياء التراث المسيحي العراقي.
وفي الختام إن ميلاد المسيح يُذكّر المسيحيين في العراق بأن الأمل والسلام يمكن أن ينبثقا حتى في أصعب الظروف.
ورغم التحديات التي واجهها المسيحيون بعد 2003، فإنهم يواصلون التمسك بإيمانهم وتراثهم، ويسعون لبناء مستقبل أفضل لهم وللأجيال القادمة. يمثل وجودهم جزءًا أساسيًا من النسيج العراقي، ويظل إحياء قيم التسامح والعيش المشترك ضرورة لتحقيق السلام والاستقرار في هذا البلد العريق.