الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عاشقُ‭ ‬المطر

بواسطة azzaman

عاشقُ‭ ‬المطر

حسن‭ ‬النواب

 

يعشقُ‭ ‬المطرَ؛‭ ‬وحينَ‭ ‬يراهُ‭ ‬ينهمرُ،‭ ‬يتركُ‭ ‬المنزلَ‭ ‬للتجوالِ‭ ‬تحتَ‭ ‬شفيفِ‭ ‬قطراتهِ‭ ‬التي‭ ‬تنزلقُ‭ ‬على‭ ‬وجههِ‭ ‬بعذوبةٍ‭ ‬وغبطةٍ‭ ‬تغمرُ‭ ‬قلبه‭. ‬إذْ‭ ‬يعودُ‭ ‬شغفهُ‭ ‬بالمطرِ‭ ‬مُذْ‭ ‬كان‭ ‬تلميذاً‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬ابتدائي‭. ‬كان‭ ‬التلامذةُ‭ ‬يلوذونَ‭ ‬تحت‭ ‬سقفِ‭ ‬المدرسةِ‭ ‬عندما‭ ‬تزخُّ‭ ‬السماء؛‭ ‬وهُمْ‭ ‬يبصرونهُ‭ ‬يرقصُ‭ ‬وحيداً‭ ‬مثل‭ ‬مخبولٍ‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬العارية‭ ‬مبتهجاً‭ ‬برذاذ‭ ‬الوَدَقْ‭. ‬وفي‭ ‬عمر‭ ‬المراهقة‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬البراري‭ ‬يراقب‭ ‬الغيوم‭ ‬الدكناء‭ ‬عسى‭ ‬أنْ‭ ‬تهديه‭ ‬مزنةً‭ ‬تنعشُ‭ ‬روحه‭ ‬الظمأى‭. ‬وفي‭ ‬حياتهِ‭ ‬الجامعية‭ ‬كان‭ ‬يمشي‭ ‬تحت‭ ‬المطر‭ ‬أمام‭ ‬عيون‭ ‬الطلبة‭ ‬هاتفاً‭: ‬ليس‭ ‬سواك‭ ‬أيها‭ ‬الغيث‭ ‬من‭ ‬يطهّر‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬ذنوبها‭. ‬وفي‭ ‬الحرب‭ ‬الذي‭ ‬دخلها‭ ‬مرغماً‭ ‬تحتفظ‭ ‬ذاكرته‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬عن‭ ‬المطر‭. ‬فقد‭ ‬احتل‭ ‬الإيرانيون‭ ‬جزيرة‭ ‬الفاو،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬شهر‭ ‬شباط‭ ‬وقد‭ ‬أصابت‭ ‬نيران‭ ‬العدو‭ ‬عشرات‭ ‬الناقلات‭ ‬المدرَّعة،‭ ‬كانت‭ ‬ألسنة‭ ‬اللهب‭ ‬تتصاعدُ‭ ‬منها‭ ‬بضراوةٍ‭ ‬ومصيرها‭ ‬لتكون‭ ‬ركاماً‭ ‬من‭ ‬الفولاذ‭ ‬المنصهر‭ ‬مسألة‭ ‬وقتٍ‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ،‭ ‬وإذا‭ ‬بمطرٍ‭ ‬ثقيلٍ‭ ‬كالقارْ‭ ‬يهطلُ‭ ‬مدراراً‭ ‬ليخمد‭ ‬النيران‭ ‬الهائجة‭ ‬في‭ ‬الناقلات‭ ‬المشتعلة؛‭ ‬لم‭ ‬ينقذ‭ ‬ذلك‭ ‬المطر‭ ‬الكثيف‭ ‬الناقلات‭ ‬من‭ ‬الدمار‭ ‬فحسب؛‭ ‬بلْ‭ ‬أنجى‭ ‬عشرات‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬داخلها‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬وقدْ‭ ‬ضاقتْ‭ ‬بهم‭ ‬السبل‭ ‬للخروج‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬الحرجة؛‭ ‬برحمةٍ‭ ‬سماويةٍ‭ ‬لم‭ ‬يجدْ‭ ‬تفسيراً‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬وفي‭ ‬معركة‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭ ‬تقهقرتْ‭ ‬فرقته‭ ‬المدرَّعة‭ ‬أمام‭ ‬هجوم‭ ‬الإيرانيين‭ ‬العنيف‭ ‬واحترقت‭ ‬دبابته،‭ ‬لمْ‭ ‬يكنْ‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬الفرار‭ ‬بجلدهِ‭ ‬ليعدو‭ ‬لاهثاً‭ ‬نحو‭ ‬مدينة‭ ‬البصرة،‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬طويلاً‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬بر‭ ‬الأمان،‭ ‬وقد‭ ‬نال‭ ‬منهُ‭ ‬الإرهاق‭ ‬والظمأ‭ ‬حتى‭ ‬هجس‭ ‬أنَّ‭ ‬حتفه‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬شدَّة‭ ‬العطش،‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬بشربةِ‭ ‬ماءٍ‭ ‬تسعفُ‭ ‬روحه‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬ظمآناً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الليل‭ ‬البهيم‭. ‬وقبل‭ ‬أنْ‭ ‬يُغمى‭ ‬عليه‭ ‬هطل‭ ‬المطر‭ ‬بلا‭ ‬هوادةٍ،‭ ‬ابتلَّت‭ ‬ملابسه‭ ‬وارتوتْ‭ ‬عروقه‭ ‬بالغيث‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬وامتزج‭ ‬دمعه‭ ‬مع‭ ‬المطر‭ ‬وهو‭ ‬يشكر‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬هبتهِ‭ ‬الثمينة‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭. ‬وعن‭ ‬ذكرياتهِ‭ ‬مع‭ ‬المطر‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬وحدته‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬قاطع‭ ‬الشيب،‭ ‬وقيظُ‭ ‬شهر‭ ‬آب‭ ‬الذي‭ ‬يميعُ‭ ‬المسمار‭ ‬في‭ ‬الباب‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭ ‬في‭ ‬المثل‭ ‬الدارج؛‭ ‬حرٌّ‭ ‬لا‭ ‬يطاق‭ ‬دعا‭ ‬الجنود‭ ‬للغطس‭ ‬في‭ ‬براميل‭ ‬الماء‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬الصَهَد‭ ‬ورمضاء‭ ‬الأرض‭. ‬وإذا‭ ‬بالسماء‭ ‬تغيثهم‭ ‬بوابل‭ ‬المطر؛‭ ‬لم‭ ‬يصدقوا‭ ‬أنَّ‭ ‬الغيث‭ ‬يهطلُ‭ ‬بلا‭ ‬هوادةٍ‭ ‬على‭ ‬رؤوسهم‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬آب‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الهجير،‭ ‬استمر‭ ‬زخُّ‭ ‬المطر‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬على‭ ‬ساعتين‭ ‬ليترك‭ ‬أمام‭ ‬أنظارهم‭ ‬بِركةِ‭ ‬ماءٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬تشكَّلتْ‭ ‬من‭ ‬جُودهِ؛‭ ‬راحتْ‭ ‬طيور‭ ‬النوارس‭ ‬تعومُ‭ ‬في‭ ‬موجها‭ ‬المضيء‭ ‬إثر‭ ‬انعكاس‭ ‬خيوط‭ ‬شمس‭ ‬آب‭ ‬عليها؛‭ ‬بمشهدٍ‭ ‬فردوسيٍّ‭ ‬خلَّابٍ‭ ‬أذهل‭ ‬الجميع‭. ‬كان‭ ‬انهمار‭ ‬المطر‭ ‬بهذه‭ ‬الكثافة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬القيظ‭ ‬قدْ‭ ‬أثار‭ ‬خوالجه‭ ‬لينزوي‭ ‬في‭ ‬الملجأ‭ ‬ويكتبُ‭ ‬قصيدة‭ ‬عشتار‭ ‬تبتكرُ‭ ‬المطر‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مقطعٍ‭ ‬منها‭: ‬وأغادرُ‭ ‬دكَّةِ‭ ‬باب‭ ‬الدار‭ ‬ومن‭ ‬غسقِ‭ ‬الدمع‭ ‬أمرُّ‭ ‬إلى‭ ‬أصقاع‭ ‬مراعي‭ ‬النار،‭ ‬وحيداً‭ ‬منطفئ‭ ‬القلب،‭ ‬أرتّقُ‭ ‬جرحاً‭ ‬غبَّ‭ ‬رحيلي‭ ‬أينعَ‭ ‬حزناً‭ ‬بأواني‭ ‬الروحِ،‭ ‬وأقدحُ‭ ‬أحجار‭ ‬الذكرى‭ ‬عن‭ ‬عبثٍ‭ ‬بزنادِ‭ ‬الرؤيا‭ ‬لا‭ ‬تبرقُ؛‭ ‬أمضي‭ ‬والمطرُ‭ ‬الصيفي‭ ‬لآلئَ‭ ‬نورٍ‭ ‬تنثالُ‭ ‬على‭ ‬أرصفةِ‭ ‬العمر،‭ ‬فتخدشُني‭ ‬كأناملها؛‭ ‬وأنا‭ ‬منذهلُ‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬رائحة‭ ‬الأنثى،‭ ‬كانت‭ ‬عالقةً‭ ‬بدمي‭ ‬بين‭ ‬شفاهي؛‭ ‬فمتى‭ ‬ذوَّبها‭ ‬المطر‭ ‬الرقراق؟‭ ‬هذا‭ ‬مطرٌ‭ ‬قدسيٌّ،‭ ‬هذا‭ ‬مطرٌ‭ ‬غزليٌّ،‭ ‬هذا‭ ‬مطرٌ‭ ‬مَلَكيٌّ‭ ‬أهدتهُ‭ ‬عشتار‭ ‬لنا‭ ‬ولعاشقها‭ ‬تُموز‭ ‬المتأجج‭ ‬وجداً‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬الأرض‭.” ‬

عاشق‭ ‬المطر‭ ‬هذا‭ ‬يضعُ‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬مهجتهِ‭ ‬بوجلٍ‭ ‬الآن؛‭ ‬فالمطر‭ ‬الذي‭ ‬ينذرُ‭ ‬بالهطول‭ ‬على‭ ‬بلادهِ‭ ‬سيحيلُ‭ ‬بيوت‭ ‬الطين‭ ‬إلى‭ ‬خرابٍ،‭ ‬ولذا‭ ‬يتضرَّعُ‭ ‬من‭ ‬قارةٍ‭ ‬بعيدةٍ‭: ‬أيها‭ ‬المطر‭ ‬كنْ‭ ‬حنوناً‭ ‬على‭ ‬الفقراء‭. ‬

 


مشاهدات 370
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2023/12/11 - 2:47 PM
آخر تحديث 2024/06/27 - 10:48 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 276 الشهر 276 الكلي 9362348
الوقت الآن
الإثنين 2024/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير