الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حرب تحطيم الأصنام

بواسطة azzaman

حرب تحطيم الأصنام

عبد الحليم قنديل

 

كأنه جرى مسح نصف قرن كامل من تاريخ الصراع مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وكأنه جرى ويجرى وصل ما انقطع مع حرب أكتوبر 1973 ، فقبل خمسين سنة ، وفى ظهر 6 أكتوبر، كان الجيش المصرى الذى أعاد تكوينه جمال عبدالناصر قبل رحيله ، كان يجترح معجزة عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف بالكامل ، وبعد الخمسين سنة ، وفى اليوم التالى مباشرة للسادس من أكتوبر ، كانت قوات المقاومة الفلسطينية تخترق سياج المليار دولار صباح 7 أكتوبر 2023 ، وتعبر بجسارة هائلة من فلسطين إلى  فلسطين ، من «غزة» التى كانت احتلت فى عدوان 1967 ، إلى مستوطنات ومدن غلاف «غزة» فى الأراضى المحتلة منذ نكبة 1948 ، وفى الحالتين ، كانت أساليب الخداع الاستراتيجى والمفاجأة المذهلة هى ذاتها ، مع الوعى طبعا باختلاف الظروف والسياق وحجم الحدث ، وقد يكون الحدث الأخير أقل حجما ، لكن مغزاه يبدو أعمق بمراحل ، وفيه معنى إعادة النجوم لمداراتها الأصلية ، واستعادة قضية تحرير فلسطين لصباها الأول .

وعلى مدارج ومنحنيات الخمسين سنة الفائتة ، كان نصر 1973 العظيم  يتعرض للتجريف ، وكانت السياسة تخذل السلاح ، وكان «الذين هبروا» يدوسون على دماء الذين عبروا ، وكان النصر يجرى استثماره فى اتجاه معاكس لمغزاه الجليل ، صحيح أن سيناء عادت لمصر فى النـــــــــــهاية ، ومساحتها وحدها أكثر من ثلاثة أرباع مجموع الأراضى العربية المحتلة فى هزيمة 1967 ، وهو إنجاز لا يملك أحد التقليل من قدره وقيمته ، لكن القيود الثقيلة التى فرضت على مصر فيما أسمى «معاهدة السلام» ، ذهبت بالسياق كله إلى مكان آخر ، وبدا أن النصر العســـــــــــــكرى تبدد سياسيا وحضاريا ، ودخلنا إلى أجواء هزيمة شاملة فى السياسة والاقتــصاد والثقافة ، وانقلب النهوض المصرى إلى انهيار .

معادلة الصراع

وكان خروج مصر من معادلة الصراع جحيما على المنطقة كلها ، وفى قلب مصر قبلها ، وإلى أن كان ما نعرف فى السنين الأخيرة ، واستعادت مصر عافية فى سيناء ، وأزالت قيد «نزع السلاح» الذى كان مفروضا ، وعاد الجيش المصرى إلى مواقعه الأمامية على الحدود مع فلسطين المحتلة ، وهو ما جعل «تحرير سيناء» واقعا فعليا ، وليس صوريا كما كان ، لكن قيود سياسة السلام ـ إياها ـ ظلت تعيق ، وتحاصر السياسة المصرية فى خانة الوساطات المعروفة ، كلما جرى صدام بالسلاح بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال ، وهو سلوك لم يعد يليق ولا يكفى ، وبالذات بعد اندلاع حرب أكتوبر الثانية فى عملية «طوفان الأقصى» ، فقد عادت أساطير «إسرائيل» تتحطم من جديد ، من نوع الجيش الذى لا يقهر ، وأجهزة المخابرات «الإسرائيلية» فائقة القدرة والتكنولوجيا ، وإلى غيرها من مبالغات وفجاجات التخويف ، وقد سقطت بالجملة بساعة الصفر فى الدقيقة العشرين بعد السادسة صباح 7 أكتوبر 2023 ، وثبت أنها كلها بالونات هواء و»خيالات مآتة» ، أخافت الدول العربية الأخرى بعد خروج مصر التاريخى ، ودفعت آخرين للتقليد ، كما فى اتفاقية «وادى عربة» الأردنية ، وكما فى اتفاق «أوسلو» الفلسطينى ، أو فى اتفاقات «إبراهيمية» وضيعة الذكر ، عقدها البعيدون عن خطوط الدم التاريخية ، وكانوا يستعدون لتتويجها باتفاق تطبيع سعودى مع كيان الاحتلال ، وبتنفيذ اتفاق «الممر التجارى» إلى موانئ إسرائيلية كيدا لقناة السويس ، وقد سقطت هذه الأصنام كلها ، لحظة سقوط مئات القتلى «الإسرائيليين» فى عملية «طوفان الأقصى» ، وكان حجر الأساس فى صناعة هذه الأصنام كلها ، هو اتفاق «كامب ديفيد» مع مصر ، وقد راجت من بعده أوهام الخوف من قوة «إسرائيل» المتخيلة بالأوهام ، وإلى حد شيوع مرض «التوحد بالمعتدى» ، وانتفاخ الرغبات فى الاحتماء بقوة إسرائيل «الإلهية» ، وجعل إسرائيل صنما يتعبدونه ، قبل أن تسقط «أصنام العجوة» فى غمضة عين ، وعلى يد ألف من المقاتلين القادمين من «غزة» الصغيرة المحاصرة المعتصرة لمدة 16 سنة ، واجهوا ويواجهون جيشا بقوته العاملة المكونة من ربع مليون جندى ، وباحتياطى جرى استدعاؤه يقارب 300 ألفا ، يحاربون الآن للانتقام المهووس من «غزة» ، التى أذلتهم وداست رقاب ضباطهم وجنرالاتهم  بالأحذية ، وقد دمروا «غزة» بأكثر مما فعلوا لمرات من قبل ، بعد أن اضطر الجنرال «شارون» ـ ملك إسرائيل ـ للجلاء عنها مرغما قبل نحو عشرين سنة ، وكان رفيقه فى الوحشية «الإسرائيلية» الجنرال «اسحق رابين» ، قد أطلق من قبله الصرخة الملتاعة ، وقال قولته الذائعة «أتمنى أن أصحو من النوم . فأجد غزة غرقت فى البحر» ، وراح «شارون» إلى سكرة الموت الطويلة من دون أن تسقط «غزة» ، وذهب «رابين» إلى يوم اغتياله من دون أن تغرق «غزة» ، وربما لا يكون مصير «بنيامين نتنياهو» أفضل ، وهو الذى يهدد اليوم بإفناء «غزة» ، ويدكها بقصف جوى ومدفعى وبحرى مجنون ، ويهدم أبراجها السكنية ويزيل أحياءها ، ويخير جيشه أهلها بين المقتلة الجماعية أو الفرار إلى مصر (!) ، ولن يهرب أهل «غزة» أبدا إلى أى مكان .

خطر العدوانية

ما نقوله لا يعنى طبعا ، أن أحدا عاقلا ، بوسعه الاستهانة بحجم وخطر العدوانية الإسرائيلية الهمجية ، لكن الجديد ، أن الثقة صارت أعظم فى المقدرة المقابلة على منازلتها بالسلاح ، وبالذات بعد الهزيمة المذلة التى لحقت بها فى طوفان غزة ، والتى جعلتها تلجـأ لطلب إغاثة عسكرية صريحة من الغرب ومن واشنطن ، فإسرائيل التى حلم حكام عرب فى الاستظلال بحمايتها الموهومة ، صارت تستجدى الحماية من أساطيل أمريكا ، ومن جسور جوية أمريكية عاجلة تزودها بالسلاح الطازج ، ومن أكبر حاملات طائرات واشنطن «جيرالد فورد» و»أيزنهاور» ، والرئيس الأمريكى الصهيونى «جو بايدن» لا يملك سوى الاستجابة الفورية ، ربما على ظن أنه قد يردع آخرين من الالتحاق بحرب قوات المقاومة الفلسطينية ضد كيان الاحتلال ، وما من أحد يعقل ، عاد يرتعب من قوة أمريكا ، التى هى و»إسرائيل» كيان واحد ، فإسرائيل هى أمريكا ، وبينهما اندماج استراتيجى ، وقد جرت «مرمطة» إسرائيل فى ساعات الحرب الأولى ، وكل محاولات «إسرائيل» وأمريكا لترميم صورة الهيمنة المفترضة ، سوف تنتهى إلى بوار ، فهم يتخوفون اليوم من التحاق «حزب الله» بالحرب ، بينما يدفعونه إليها باستفزازاتهم وبحشودهم ، وعلى الأمريكيين أن يتذكروا واقعة إذلالهم قبل أربعين سنة فى «بيروت» ، وقتها كان «حزب الله» لايزال جنينا يتشكل فى رحم المعاناة ، وبضربة استشهادية من مقاتل واحد ، قتل 241 وجرح 128 من مشاة البحرية الأمريكية ، وقتها كان «رونالد ريجان» رئيسا لأمريكا ، وسحب ما تبقى من حشوده وأساطيله فور المقتلة الدامية ، فما بالك اليوم ، وقد صار «حزب الله» أقوى جيش مهدد لوجود الاغتصاب الإسرائيلى من الشمال ، وقد تدافعت نذر إمكانية دخوله إلى الحرب ، ربما عند اللحظة التى تقرر فيها «إسرائيل» اقتحام «غزة» بريا ، وصواريخ «حزب الله» أكثر وأقوى وأدق بمراحل من صواريخ «حماس» ، ومقاتلوه أفضل تدريبا ومراسا على الحرب المباشرة مع جيش العدو ، وعبوره الحدود إلى فلسطين وارد جدا إذا دعت الحاجة ، وإذا حدث ذلك ، فسوف يلقى كيان الاحتلال جحيما وحريقا مستعرا مروعا ، لا تنجو منه ولا فيه أى مستوطنة أو منشأة «إسرائيلية» ، من المفاعلات النووية إلى أكبر مصانع «الأمونيا»  ، فلسنا هذه المرة بصدد حرب قصيرة الأيام ، من تلك التى تعود عليها ويفضلها كيان الاحتلال ، بل بصدد حرب متطاولة الأماد ، ومن الشمال والجنوب معا ، فى استعادة رمزية لما كان قبل خمسين سنة فى حرب أكتوبر الأولى ، وإن كان الخطر على الكيان أكبر هذه المرة وبما لا يقاس ، فالتكنولوجيا الحربية التى تملكها «إسرائيل» ، جرى تعويض فجواتها ، أو جلب بدائل لمواجهتها ، بينــــــما يظل تفوق أطراف المقاومة العربية الجديدة غلابا فى عقيدة المحاربين ، وهم يقاتلون دفاعا عن وطن أو طلبا لاستعادته ، بينما لا يملك عنصر الجيش الإسرائيلى عقيدة قتال ، ويفر من الميدان عند أول لحظة خطر على حياته ، وهنا أصعب أسئلة الامتحان الحربى الذى تواجهه «إسرائيل» ، فالمذعور «نتنياهو» يقول أنه سيغير خرائط الشرق الأوسط بحرب دموية طويلة ، وهو لا يملك فيها غير هدم الحجر ، بينــــــــما البشر الذى يقــــــاتلونه لا ينهدمون ولا تفنيهم تضحيات ، والشرق الأوسط سيتغير فعلا ، ولكن فى الاتجاه المعاكس لآمال كيان الاحتلال ، وفى الاتجاه المعاكس لفرص بقائه أصلا ، وقــــــــد صار وجوده فى ذاته رهينة لضربات المقاومة ، تماما كما المئات من نسله ونسل الأمريكيين الأسرى المحتجـــــــــزين فى «أنفاق غزة» ، وإن لم تــــــــطو أيام الحرب الراهنة سريعا ، فعلى «نتنياهو» المتبجح ، أن ينتظر طى أوراق كيانه المهتز فى سنوات مريرة مقبلة بإذن الله .


مشاهدات 690
الكاتب عبد الحليم قنديل
أضيف 2023/10/15 - 5:02 PM
آخر تحديث 2024/07/16 - 7:58 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 260 الشهر 7828 الكلي 9369900
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير