الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إن لم يستح الشيب فليخجل القلم

بواسطة azzaman

إن لم يستح الشيب فليخجل القلم

 

حيدر المحسن

 

من التعريفات التي قيلت عن ابن آدم ما أتانا به الفيلسوف الأديب مدني صالح: "الإنسان حيوان مكابر". يقع ضمن هذا الفعل ما يقوم به السيّد داود الفرحان في مقالاته المنشورة في الصّحافة، والتي تشبه قراءتها عاصفة هادئة على القارئ أن يستعدّ لها بساعات من الصّمت والخلود إلى النّفس كي تمرّ الزّوبعة بسلام.

يبلغ السيّد الفرحان -أطال الله عمره- حوالي العقد الثامن، وينتمي إلى الطبقة المثقّفة من الرّجال الذين عملوا مع النّظام العراقي السّابق، وهو بالإضافة إلى ذلك صحافيّ وكاتب مقال ساخر كان يوخز بقلمه أجهزة السّلطة، بما فيها رأس النّظام، الرئيس صدام حسين، ولكنْ بطريقة ذكيّة ولمّاحة وبليغة كأنْ يقول الشّيء وعكسه في الوقت نفسه، وكان يمتلك فسحة من الحرّيّة تجعله يسكن في محلّ لا يصله غيره من الكتّاب، وكان يقدّم ما يشرّف القلم ومهنة صاحبة الجلالة في أغلب الأوقات. لكنّ الأمر اختلف بعد سقوط النّظام، وصار الفرحان ينشر كتاباته بطريقة يبدو أن همّه الوحيد فيها هو المكابرة، وهذه تعني المعاندة والمغالبة في الحقّ، وعندما يقرؤه النّاس يختلط الأمر عليهم، ويصبح ما هو إشاعة أو التفاف خلف الخبر الأصلي هو الحقيقة، ويستمرّ الخلط في الحقائق مع مرور الأشهر والسّنين، وإذا بنا نقف في التّالي أمام أحداث كلّها من صنع الخيال، كأنّ الواقع الذي عشناه صار من أعمال الأدب، يزيد فيها المؤلّف وينقص، والشّاطر من يأتي بما لم يسبقه إليه غيره.  

حجر الدّومينو الأوّل

نشرَ الفرحان مرّة عن معاهدة الصّداقة بين العراق والاتحاد السّوفياتي على أنّها "انتهت مع كابوس الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 لكن الحقيقة التي لم يذكرها، ولا نعرف سبب ذلك، أنه في 1991 وبعد غزو العراق للكويت أرسل الرّئيس غورباتشوف رسالة إلى الرّئيس العراقيّ السابق يعلمه فيها في حالة عدم انسحاب القوّات العراقيّة من دولة الكويت خلال 24 ساعة فإنّ معاهدة الصّداقة والتّعاون بين البلدين تعتبر لاغية. ثم ظهر صدام حسين على الشّاشة البيضاء، وقال متهكّماً "الرئيس الرّوسي يريد منّي جواباً لرسالته خلال يوم واحد. ولكن رسالتك أيّها الرّئيس لا تصلني عبر البريد إلاّ بعد شهر أو أكثر".  لو أن السيد داود الفرحان ناقش أيًّا من (رفاقه)، وطلبوا اجتماعاً استثنائياً هذه المرة، وسألوا (الرّفيق المناضل صدّام حسين) عمّا يفعله، ستفيد النّتيجةُ التي سيخرجون بها حتماً العربَ والبشريّةَ جميعاً، وربما تأثّر مجرى التّاريخ كلّه؛ وكانت تلك الخطوة، أي غزو الدّولة الجارة، ومثلما يعلم الجميع، هي التي أدّت بحجر الدّومينو الأوّل في الأمّة العربيّة إلى أن يتهاوى، ليجرّ بقيّة الأحجار إلى السّقوط واحداً بعد الآخر، وإلى يومنا هذا. تقوّت بسبب هذه المغامرة الطّائشة شوكة أعدائنا في كلّ مكان، وهي تعمل فينا الطّعن في كلّ طرف وجنب. كنت ناقشتُ هذا الأمر في مقال خصّصته بهذا العنوان، "بريد السيّد الرّئيس" ونشرته في صحيفة القدس العربي، وهو محفوظ في أرشيفي في الصحيفة، ويمكن للقارئ العودة إليه. في اللّهجة العراقية مفردة هي (الكار)، وتعني بالفصيح الحِرفة والصّنعة. لم أذكر اسم الفرحان في المقال لأنّنا من "كار" واحد، وأعني به الكتابة في الصّحافة، فالدّنيا مثلما يقول المثل صغيرة، وربّما سهوتُ مرّة، ولا بأس من غضّ النّظر عن الخطإ بين أصحاب "الكار" الواحد. لكنّ الفرحان ظلّ يتابع السّير في هذا الطّريق، وأتانا قبل أيّام بحديث عجيب عن أهل بلدة الفلّوجة، فهو يقول: "في عام 2004 جرت معركة الفلّوجة الأولى غرب بغداد بين المسلّحين المتحصّنين في هذه المدينة والجيش الأمريكي في محاولته الأولى لاقتحامها والسّيطرة عليها"، ولا يستطيع أحد عاش الحقيقة السّكوت، وقبل مناقشة هذا الموضوع أودّ شرح حقيقة ثانية.

 تنظيف السّجون

أحدى مقالات الفرحان يحمل عنوان "ضحايا التّعذيب... من مرحلة الرّعب إلى مرحلة الشّفاء". ورغم أنّ العنوان أدبيّ بامتياز، لكنّي لا أريد أن أستعمل طريقة النّقد المعروفة في كتب الأدب ب "عَصر اللّيمون"، أي جعل كلام الفرحان تحت النّاظور من أوّل كلمة، إلى الأخير، فهذا أمر يحتاج إلى صفّ عشرات الأسطر أو المئات، وسوف أكتفي بدلاً من ذلك بمناقشة جملة واحدة وردت في المقال: "وكان الرّئيس العراقيّ الرّاحل صدّام حسين قد أصدر قراراً عشيّة الاحتلال بـ«تنظيف» هذا السّجن -أي سجن أبو غريب- والسّجون الأخرى من النّزلاء، وأغلبهم من غير السّياسيين". عندما يجمع القارئ بين هذه المعلومة والعنوان الأدبي الذي استعمله الكاتب يظنّ في الحال أن الأمر يتعلّق بنوع من رفع الغبن والإجحاف عن المسجونين. والحقيقة التي لم يذكرها الكاتب هي أنّ الرّئيس العراقيّ بعث بقصاصة في أحد أيّام حكمه -والحادثة شهيرة ويعرفها الجميع- إلى ابنه قصي وكتب فيها: "نظّف سجونك يا ولدي"، وأقام عندها الابن محكمة صار فيها القاضي، ولكنْ على طريقة رئيس محكمة الثّورة القاضي العادل عوّاد البندر، عندما كان يصدر أحكامه على السّجناء السّياسيين بهذه الصّورة: من المتّهم الأوّل إلى المتّهم الذي يقف جنب عمود القاعة حكمت عليهم محكمة الثّورة بالإعدام، بقيّة المتّهمين حكمنا عليهم بالسّجن المؤبّد، ولا يكتفي البندر بالطّبع بهذا القرار، بل يضيف إلى اسم الشابّ الذي سوف يُعدم ألفاظاً نابيّة تقشعّر منها النّفوس والأَجرام. بهذه الطّريقة كان يجري (تنظيف) السّجون طوال السّنين التي حكم فيها حزب البعث العراق.

التّنظيف الآخر الذي جرى قبل بدء الحرب الأخيرة تمّ بناءً على أمرٍ رئاسيّ فتح بموجبه السّجّانون أبواب جميع السّجون في البلاد وأفرغوها في دقائقَ معدودة؛ السّرّاق والمزوّرون وتجّار المخدّرات والشّاذّون ومدمنو الإجرام صاروا طلَقاء جميعاً، لا أحد استقبلهم غير قارعة الطّريق، وكان الوصف الذي تناقلته بعض وكالات الأنباء في العالم لهذا العمل هو أنّه يشبه رشّ مزابل المستشفيات من قيح وصديد وعيّنات خبيثة في مجرى النّهر بُغية تلويثه وتسميم جميع أفراد الشّعب حتّى الممات. هذا (التّنظيف) هو السّبب الرّئيسيّ وراء السّرقات وعمليّات النّهب والسّلب والاختطاف التي جرت أثناء وبعد الاحتلال وحتى الوقت الحاضر، بما فيها جريمة سرقة متحف البلاد وتحطيم آثاره، وبما فيها كذلك الهيكلة التي يتمّ بها بناء ما يُدعى الآن بالميليشيّات والعصابات، وغير ذلك من كيانات سوف تبقى تعبث في الأمن وفي كلّ ما يتبع العامّ والخاصّ، إلى أجل لا يعرفه غير مقدّر الأقدار. 

معركة الفلوجة

نتذكّر جميعا أيّام الاحتلال الأمريكيّ للعراق عامَ 2003، وأين جرى قتال القوات الغازية، وكيف أنّها مرّت على محافظة (الأنبار) وقضاء (الفلّوجة) دون أن يهتزّ في المدينتين حتى غصن على شجرة، أو ورقة في هذا الغصن. كانت جميع الأبواب مغلقة ولا أحد يسير في الشّارع، وكأنّ قرارا أُذيع يأمر النّاس بعدم التّجوال، في الوقت الذي كانت الدبّابات والعجلات الأمريكيّة تسير متمهّلة بكلّ اطمئنان وأمان، وكأنّها من أهل الدّار. ولم يكن الحال خاصّا بالفلّوجة، فقد اشتركت كلّ المحافظات العراقيّة معها، بما فيها العاصمة بغداد، قلعة الأسود، على حدّ تعبير السيّدة كوكب الشّرق، وكان إعلام حزب البعث الحاكم يعدّ هذه الأغنية من ضمن إيديولوجيّة حزبه الحاكم، واختار مقدّمتها الموسيقيّة لتكون فاتحة النّشرة الإخباريّة في الإذاعة. لم يخرج ولا بعثيّ من هذه القلعة يرد على جنود الاحتلال الذين كانوا يمشون في الشّوارع مختالين بنصرهم الذي كان سهلا وبسيطا ولم يكلّفهم عناء وتعب رِحلة. وإذا علمنا أنّ هذا الحال كان في العاصمة القلعة، فكيف يكون في قضاء صغير هو الفلّوجة؟!

بعد إعلان مجلس الحكم من قبل الحاكم المدنيّ بول بريمر، حدثت الحرب الأهليّة في العراق، وتعاون حزب البعث مع الإسلام المتطرّف في إشعالها، وجاء الإسلاميّون السّلفيّون المتشدّدون من كلّ أنحاء العالم لقتال الأمريكان والقوات الحكوميّة العراقيّة التي كانت فتيّة وبلا خِبرة، وأحدث هؤلاء المجرمون الخرابَ في المدن التي صيّروها ساحة لقتالهم، وهتكوا أعراض أهلها، ومزّقوا كذلك النّسيج الاجتماعيّ العراقيّ بافتعالهم القتل الطّائفي على الهويّة، وكلّ ما جرى مدوّن بالصّورة والصّوت في جميع محطّات الإذاعة والتلفزيون في العالم، بعد أن صار أهل العراق المساكين فُرجة للعالم أجمع. كلّ هذا سببه البعثيّون والسّلفيّون الذين يمجّدهم الفرحان، الولهان بما قاموا به في الفلّوجة، والطَّرِبُ فيما يبدو لخراب بلده، والذي لن يعود إليه العِمران في المستقبل القريب أو البعيد أو الأبعد، بسبب انسحاب القوات الأمريكيّة، ودخول العصابات من دول الجوار والتي صار لها القرار أخيرا.

أثبت مجرى الأحداث أن حزب البعث لم يَبْنِ في العاصمة بغداد بيتا للنّعاج، حاشاهم الرّفاق من هذا النّعت، فهم كانوا شجعانا والله، ولكن على طريقة إقدام الضّباع التي تنام في جحورها في النّهار، وتخرج في اللّيل، تملأ الدنيا قبحا وشراسة. إن في أذهان أتباع حزب البعث وأعوان النّظام السّابق وقع فاسد لكلّ ما له معنى في حياتنا، فالوطنيّة تعني التّغوّل على أبناء الوطن، والنّزاهة تعني ضدّها وكذلك الصّدق والشّجاعة...

 


مشاهدات 425
أضيف 2023/03/24 - 11:54 PM
آخر تحديث 2024/07/18 - 1:46 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 28 الشهر 8017 الكلي 9370089
الوقت الآن
الجمعة 2024/7/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير