قال أبو العلاء:
وردنـا مـاء دجلة خيـرَ مـاءٍ
وزرنا أشرفَ الشجرِ النخيلا
وما أكثر الشعراء، والأدباء، والندماء، والحيارى، والرحالة، وأهل الهوى، الذين وردوا ماء دجلة من كل ركن وبقعة وصوب في الكرة الأرضية، ومشوا على أطرافه، واستلقوا على ضفافه، ووقفوا عند أجرافه، وتناجوا على جسوره، وفي أفياء أشجاره وظلالها وحولها. يقولون في النجوم الساهدات وفي النواسي والليالي الملاح، ويتغزلون بعيون المها وفتنتها وروحها وعطرها اللاتي، جلبن الهوى من حيث لا أنت ولا هم ولا نحن ندري، وكل ليلة بألف ليلة تبدأ ولا تنتهي.
وفي بغداد وفي أشهر شوارعها: الرشيد وأبو نواس والمتنبي. وأسواقها وأسوارها وأبوابها: باب المعظم، والباب الوسطاني، وباب الطلسم، والباب الشرقي، أو باب كلواذى، وآثارها ومحلاتها القديمة المتجددة بنكهة مجدها العريق وماضيها التليد.. وفي دجلة قال أحمد شوقي:
يا شـراعاً وراءَ دجلةَ يـجـري
في دموعي تجنبتكَ العوادي
فهذا النهر العظيم ينام في أمواجه وسواقيه كل الحزن العراقي النبيل، والمساءات، والخلاخيل، ومكاتيب الهوى، وقصص الأشواق، والأحلام المؤجلة، والأسرار والأساطير، والمقامات. إنه ليس نهر التيمس في إنجلترا، ولا السين في فرنسا، ولا الراين في ألمانيا. لكنه موجات من العتابة تحتاج من يسمعها. تختصر أطول حكايات الشوق في الدنيا.
وكانت أجمل مهرجانات الشعر تقام في بغداد. فيتوافد الشعراء بمعلقاتهم، والعشاق بآهاتهم. وفي منتصف الستينات أقيم مهرجان الشعر العربي، غاب الجواهري وشارك مصطفى جمال الدين، وأبو نواس العراق حافظ جميل، والشيخ أحمد الوائلي، الذي قرأ من أجمل قصائده:
بغداد يا زهو الربيع على الربى
بالعطـر تعبـقُ والسنا تتـدفّـقُ
يا ألـف ليلة ما تـزال طيـوفـهـا
سحـراً على شطآن دجلةَ يمتعُ
أما مصطفى جمال الدين فزاد بهاءً برائعته البغدادية:
بغدادُ ما اشتبكت عليكِ الأعصـرُ
إلا ذَوَتْ ووريــقُ عمـرك أخضــرُ
مرّتْ بكِ الدنيا وصبحكِ مشمسٌ
وَدَجَتْ عليـك ووجـه ليلك مقمـرُ
ثم جاء حافظ جميل الشاعر الهادئ، الهامس، الدافئ، لينشد فيُطرب:
أضيافُ بغدادَ هذا وجهُ بغداد ِ
صحائفٌ من بطـولاتٍ وأمجـادِ
هاتوا العبيـدَ أقطِّعْ كفّهم قُبُـلاً
ولا أصافحُ كفَّ الظالمَ العادي
في هذا المهرجان غنّى محمد القبانجي عن بغداد: الملك لله والأوطان تجمعنا
يومها نهض الشاعر المصري أحمد رامي مسلوب الإرادة ، يهتف من قلبه: يا سلام.. ألقى قبّعته تحيّة للقبانجي ولبغداد، رافعاً كلتا يديه، والاثنان يردّان التحيّة لمصر ورامي بأحسن منها.. كان دجلة يمدّ يده فيصافح النيل.. سكتوا جميعاً وتكلّم النهران!.