حدث هذا بباب منتصف تسعينيات القرن البائد بعمون الجميلة ، إذ دخل مقهى السنترال صاحبي الراحل الآن المسرحي المؤجل صالح البدري الذي سيفوز بعد سنة من الجوع والتشرد وفراق العائلة بعقد مسرحي قيمته أربعمائة دينار صار معها الولد حديث المقهى ومهوى عيون الحاسدبن .
على كتفه المهزول كانت حقيبة معلقة فارغة ، وبيمينه التي شذبت شعري ولحيتي كيس أسود تنام بظلمته زجاجة عرق سر مهر لم تفك بكارتها بعد .
قال انبش جيبك واقلبه على البطانة علّك تجد ثمن المزة وبعض عشاء أخير الليل ففعلت الأمر مثل تلميذ نجيب وسلمته خردة معدنية بقدر دينار كان كافياً لشراء علبة لبن وربطة خبز وكيلو عظام ملطخة بآثار وزفر لحم وشحم عشوائي ، وحبات طماطة مضروبة يرميها البائع خارج البسطة بسقف السيل المجاور ، وربما ليمونة رائعة ركلها طفل خلف أمه فاستقرت عند سور حاوية الزبل رزق الفقراء والقطط . سألته عن السكائر قال أن بجيبه كيس تبغ وورق كثير يكفي للف مائة سيجارة ، فاطمأننت وعاجلته بسؤال مكان السهرة المنتظرة الرائعة ، قال اتبعني الى سيارات تمر بمنطقة أم الحيران بشرق عمان ، حيث وجد صالح غرفة صغيرة ليس فيها شباك وقد عمد المسرحي النبيل إلى دق وصلة قماش على الجدار ، وجعلها تهفهف وتمنح الساكن الوحيد شيئاً من اطلالة افتراضية رحيمة .
غرفة مربعة تشبه زنزانة ستيف ماكوين ، لكنها صارت شاسعة ورائعة بعد أن كرعنا النصف الأول من زجاجة عرق الموال ، ومن حسناتها أنها كانت تصنع صدى كلامنا وتمنحه فخامة وجهوراً ، الأمر الذي أعانني كثيراً على التلذذ بصوت صالح المنفر الذي راح يخلط ألف ليلة أم كلثوم وليلة ويوم سعدي الحلي .
لدى صاحبي وسميري النبيل مصدر نار مثل الذي يستعمله جنود الحرب ويطلق عليه اسم جولة بتعجيم الجيم ، وثمة قدر فافون وصينية مقعرة وخلطة عظيمة من الملح والبهارات ونومي البصرة ، وقبل صياح الديك بساعة وكأس انزرعت بيننا صينية تشريب العظام ولحمها وشحمها الوهمي الجليل ، وأغلب الظن هو أننا نمنا من دون غسل اليد والحلق والساعد الذي ساحت فوقه دهون تلك الوليمة الطيبة .
صحونا ظهراً بارداً وتريقنا ببقايا المثرود المنقوع ، وكان طعمه هذه المرة يشبه وجه جندي مكبوس بسيارة ريم بائتة بكراج النهضة وصاحبها ينادي بصوت نعسان :
نفر واحد كوت عمارة بصرة .
ها صديقي مجيد السامرائي هل أعجبك هذا المكتوب المنبوش من سكراب الذاكرة ؟