الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
فن‭ ‬وتكنولوجيا

بواسطة azzaman

فن‭ ‬وتكنولوجيا

علاء الخطيب

 

هناك‭ ‬جدل‭ ‬حاد‭ ‬نشأ‭ ‬بين‭ ‬الفنانين‭ ‬والمبدعين‭ ‬إزاء‭ ‬علاقة‭ ‬الفن‭ ‬بالتكنولوجيا‭,‬فالبعض‭ ‬منهم‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬القيم‭ ‬الجمالية‭ ‬تساقطت‭ ‬وتهاوت‭ ‬أمام‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬و‭ ‬البعض‭ ‬الاخر‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬أوجدت‭ ‬قيما‭ ‬جمالية‭ ‬جديدة‭, ‬فاصحاب‭ ‬الرأي‭ ‬الأول‭ ‬ينتابهم‭ ‬الإحباط‭ , ‬نتيجة‭ ‬شعورهم‭ ‬بعدم‭ ‬الفاعلية‭ ‬في‭ ‬محيطهم‭ , ‬وان‭ ‬كل‭ ‬نتاجهم‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفعله‭ ‬أي‭ ‬كمبيوتر‭ ‬صغير‭ , ‬ولكن‭ ‬أصحاب‭ ‬الرأي‭ ‬الثاني‭  ‬يقولون‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬عصر‭ ‬أدواته‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يطوعها‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬نتاجه‭ ‬الإبداعي‭, ‬فالفن‭ ‬ممارسة‭ ‬إجتماعية‭ ‬وهو‭ ‬سلعة‭, ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬اللألماني‭ ‬فالتر‭ ‬بنيامين‭ ‬Walter‭ ‬Benjamin‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬نتبه‭ ‬الى‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ .‬

‭ ‬ويضيف‭ ‬أصحاب‭ ‬الرأي‭ ‬الثاني‭ ‬القول‭  ‬إن‭ ‬الفنان‭ ‬مهووس‭ ‬بطبعه‭ ‬بحقيقة‭ ‬اللحظة‭ ‬الإبداعية‭ ‬حين‭ ‬يروم‭ ‬تثبيت‭ ‬بصمات‭ ‬أحاسيسه‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬مهما‭ ‬اختلف‭ ‬نوعه‭. ‬وإن‭ ‬تبدو‭ ‬هذه‭ ‬البصمات‭ ‬ذاتية‭ ‬فهي‭ ‬تجر‭ ‬في‭ ‬مكامنها‭ ‬إرثا‭ ‬بصريا‭ ‬و‭ ‬رمزيا‭ ‬يتدفق‭ ‬كلما‭ ‬غاصت‭  ‬ذات‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬طيات‭ ‬اللاوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬المتصل‭ ‬باللاوعي‭ ‬الجماعي‭. ‬و‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬فان‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ملحَّة‭ ‬إلى‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬أفضت‭ ‬إليه‭  ‬اللعبة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭, ‬فلربما‭ ‬أكتشف‭ ‬عبرهم‭ ‬عن‭ ‬اشراقات‭ ‬كانت‭ ‬خفية‭ ‬ساعة‭ ‬المخاض‭ ‬الإبداعي‭.‬

لكن‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬يخالج‭ ‬روح‭ ‬الفنان‭ ‬هو‭ ‬كيفية‭ ‬تطويع‭ ‬الوسائط‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الى‭ ‬إمكانات‭  ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬فرض‭ ‬البصمة‭ ‬الذاتية‭ ‬والرؤية‭ ‬الإبداعية‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭, ‬دون‭ ‬المساس‭ ‬بمضمون‭ ‬الفكرة‭  .   ‬

لقد‭ ‬فرضت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬واقعاً‭ ‬جديداً‭ ‬لحياتنا‭ ‬وأفرزت‭ ‬رؤى‭ ‬جديدة‭ ‬صاحبتها‭ ‬متغيرات‭ ‬إجتماعية‭ ‬إنعكست‭ ‬بشكل‭ ‬او‭ ‬بآخر‭ ‬على‭ ‬الفنون‭ ‬كافة‭,‬‭ ‬ومنها‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ , ‬فقد‭ ‬تفاعل‭ ‬الفنان‭ ‬مع‭ ‬أدوات‭ ‬عصرة‭ ,‬وأفرز‭ ‬لنا‭ ‬مفاهيم‭ ‬حداثيِّة‭, ‬أنتجت‭ ‬حضارة‭ ‬الصورة‭,  ‬فنلاحظ‭  ‬منذ‭ ‬بضعة‭ ‬سنوات‭ ‬اكتساح‭ ‬الوسائل‭ ‬الرقمية‭ ‬كل‭ ‬مجالات‭ ‬الإبداع‭.‬ولربما‭ ‬كان‭  ‬الفنان‭ ‬الإيطالي‭ ( ‬جوانات‭) ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬الذين‭ ‬أبدعوا‭ ‬في‭ ‬إستخدام‭ ‬الوسائط‭ ‬التقنية‭ ( ‬التصوير‭ ‬الفوتوغرافي‭ ‬و‭ ‬الرسم‭  ‬وإدخال‭ ‬مؤثرات‭ ‬بالكمبيوتر‭) ‬فأبدع‭ ‬لوحات‭  ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬غريب‭ ‬لكنها‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الجمال‭, ‬وعرض‭ ‬عمله‭ ‬الإبداعي‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬فاحدث‭ ‬قفزة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭, ‬لقد‭ ‬أتاح‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيا‭  ‬مجالاً‭ ‬واسعاً‭  ‬وطفرة‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الفنية‭. ‬

فمن‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭ ‬الفنان‭ ‬باستمرار‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬الفن‭ ‬و‭ ‬عن‭ ‬أشكاله‭ ‬و‭ ‬أنماطه‭ ‬المستحدثة‭ ‬تبعا‭ ‬لما‭ ‬يعيشه‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬تكنولوجي‭ ‬يهيمن‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الحياتي‭ ‬البسيط‭ ‬كما‭ ‬يملي‭ ‬على‭ ‬عقولنا‭ ‬أساليب‭ ‬فكرية‭ ‬و‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬واعية‭ ‬وغير‭ ‬واعية‭. ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬كل‭ ‬أوجه‭ ‬العلوم‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المقاربات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المنهج‭ ‬التقني‭ ‬المعتمد‭ ‬على‭ ‬المنفعة‭ ‬و‭ ‬المردود‭ ‬المادي‭ ‬لكل‭ ‬عمل‭ ‬أو‭ ‬جهد‭ ‬بشري‭. ‬

ولا‭ ‬بد‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أتسائل‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬قدرة‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬الفنان‭  ‬بمنأى‭ ‬عما‭ ‬تشهده‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬ثورة‭  ‬تكنولوجية‭ ‬و‭ ‬معلوماتية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإيقاعات‭ ‬المتسارعة‭ ‬للزمن‭  ‬ونشوء‭ ‬لغة‭ ‬إبداعية‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬الوسائط‭ ‬التكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬أدوات‭ ‬أكثر‭ ‬طواعية‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الفنان‭.‬

لقد‭ ‬تحول‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬من‭ ‬الطابع‭ ‬الفردي‭ ‬الى‭ ‬الطابع‭ ‬الجماعي‭ ‬‭,‬‭ ‬فقد‭ ‬الغت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬السمة‭ ‬الفردية‭ ‬للفن‭ ‬ليصبح‭ ‬ممارسة‭ ‬إجتماعيىة‭ ‬متاحة‭ ‬للجميع‭  ‬ليظهر‭ ‬عصر‭ ‬الصناعة‭ ‬الثقافية‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬أدورنو‭ ‬ويتحول‭ ‬الفن‭ ‬الى‭ ‬سلعة‭ ‬حياتية‭ ‬ضرورية‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬السينما‭ ‬وفن‭ ‬التصوير‭ ‬الفوتوغرافي‭ ‬والتصميم‭ ‬والكرافيك‭ ‬وغيرها‭.   ‬

فلم‭ ‬يعد‭ ‬الفن‭ ‬مقصورا‭ ‬على‭ ‬هاوي‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬الكتب‭ ‬النادرة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬محدودة،‭ ‬تقتني‭ ‬لوحات‭ ‬نادرة‭,‬وإنما‭ ‬أصبح‭ ‬بفضل‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الحديثة‭ ‬ثقافة‭ ‬جماعية،فالحفل‭ ‬الموسيقي‭ ‬والعرض‭ ‬المسرحي‭  ‬الذي‭ ‬يحضره‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسمعه‭ ‬ويشاهده‭ ‬الملايين‭ ‬عبر‭ ‬الأقمار‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أطراف‭ ‬الأرض‭.   ‬

‭ ‬وكذلك‭  ‬تقوم‭  ‬السينما‭ ‬بنقل‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬إلى‭ ‬المشاهد،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬كما‭ ‬هو،‭ ‬حيث‭ ‬تلغي‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬والمتلقي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وعية‭ ‬الأخير‭ ‬المتخيل،‭ ‬وإنما‭ ‬تقدم‭ ‬صورة‭ ‬قابلة‭ ‬للتفاعل‭  ‬لدى‭ ‬ملايين‭ ‬المشاهدين‭ ‬الذين‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يقرأوا‭ ‬النص‭ ‬الأدبي،‭ ‬بل‭  ‬يشاهدون‭ ‬الفيلم‭ ‬وتساهم‭ ‬المشاهدة‭ ‬الجماهيرية،‭ ‬نتيجة‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬المسافة‭ ‬في‭ ‬إزالة‭ ‬الطابع‭ ‬الخاص‭ ‬للنص‭ ‬الأدبي‭.  ‬

فالفن‭ ‬ممارسة‭ ‬اجتماعية‭ ‬مرتبطة‭ ‬بنزعات‭ ‬الإنسان‭ ‬وجنوحه‭ ‬نحو‭ ‬قيم‭ ‬الجمال‭, ‬يتأثر‭ ‬بروح‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭, ‬وهو‭ ‬مؤرخ‭ ‬صادق‭ ‬لعصره‭ . ‬لذا‭ ‬تعتمد‭ ‬القيم‭ ‬الجمالية‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬الفنان‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭  ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ . ‬


مشاهدات 645
أضيف 2022/11/04 - 11:13 PM
آخر تحديث 2024/11/22 - 2:23 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 56 الشهر 9974 الكلي 10053118
الوقت الآن
الأحد 2024/11/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير