هناك جدل حاد نشأ بين الفنانين والمبدعين إزاء علاقة الفن بالتكنولوجيا,فالبعض منهم يعتبر أن القيم الجمالية تساقطت وتهاوت أمام التكنولوجيا و البعض الاخر يعتبر أن التكنولوجيا أوجدت قيما جمالية جديدة, فاصحاب الرأي الأول ينتابهم الإحباط , نتيجة شعورهم بعدم الفاعلية في محيطهم , وان كل نتاجهم يمكن أن يفعله أي كمبيوتر صغير , ولكن أصحاب الرأي الثاني يقولون أن لكل عصر أدواته التي يجب أن يطوعها المبدع في نتاجه الإبداعي, فالفن ممارسة إجتماعية وهو سلعة, كما يقول الفيلسوف اللألماني فالتر بنيامين Walter Benjamin, وهو أول من نتبه الى هذه الحقيقة .
ويضيف أصحاب الرأي الثاني القول إن الفنان مهووس بطبعه بحقيقة اللحظة الإبداعية حين يروم تثبيت بصمات أحاسيسه على العمل الإبداعي مهما اختلف نوعه. وإن تبدو هذه البصمات ذاتية فهي تجر في مكامنها إرثا بصريا و رمزيا يتدفق كلما غاصت ذات الفنان في طيات اللاوعي الذاتي المتصل باللاوعي الجماعي. و على هذا الأساس فان المبدع في حاجة ملحَّة إلى التفاعل مع ما أفضت إليه اللعبة الفنية في عصره مع الجمهور, فلربما أكتشف عبرهم عن اشراقات كانت خفية ساعة المخاض الإبداعي.
لكن السؤال الأهم الذي يبقى يخالج روح الفنان هو كيفية تطويع الوسائط التكنولوجية الى إمكانات يمكن من خلالها فرض البصمة الذاتية والرؤية الإبداعية على العمل الفني, دون المساس بمضمون الفكرة .
لقد فرضت التكنولوجيا واقعاً جديداً لحياتنا وأفرزت رؤى جديدة صاحبتها متغيرات إجتماعية إنعكست بشكل او بآخر على الفنون كافة, ومنها الفن التشكيلي , فقد تفاعل الفنان مع أدوات عصرة ,وأفرز لنا مفاهيم حداثيِّة, أنتجت حضارة الصورة, فنلاحظ منذ بضعة سنوات اكتساح الوسائل الرقمية كل مجالات الإبداع.ولربما كان الفنان الإيطالي ( جوانات) واحداً من الفنانين الذين أبدعوا في إستخدام الوسائط التقنية ( التصوير الفوتوغرافي و الرسم وإدخال مؤثرات بالكمبيوتر) فأبدع لوحات ذات طابع غريب لكنها غاية في الجمال, وعرض عمله الإبداعي في إيطاليا لأول مرة فاحدث قفزة في العمل الإبداعي, لقد أتاح الانفتاح على التكنولوجيا مجالاً واسعاً وطفرة هائلة في الحركة الفنية.
فمن المفترض أن يتساءل الفنان باستمرار عن ماهية الفن و عن أشكاله و أنماطه المستحدثة تبعا لما يعيشه من تطور تكنولوجي يهيمن بالضرورة على المشهد الحياتي البسيط كما يملي على عقولنا أساليب فكرية و ردود أفعال واعية وغير واعية. لقد أصبحت كل أوجه العلوم بما فيها المقاربات الإنسانية في خدمة المنهج التقني المعتمد على المنفعة و المردود المادي لكل عمل أو جهد بشري.
ولا بد لي من أن أتسائل هنا عن قدرة أن يبقى الفنان بمنأى عما تشهده المجتمعات الحديثة من ثورة تكنولوجية و معلوماتية في ظل الإيقاعات المتسارعة للزمن ونشوء لغة إبداعية جديدة هي لغة الوسائط التكنولوجية التي تقدم لنا أدوات أكثر طواعية في يد الفنان.
لقد تحول الفن في عصر التكنولوجيا من الطابع الفردي الى الطابع الجماعي , فقد الغت التكنولوجيا السمة الفردية للفن ليصبح ممارسة إجتماعيىة متاحة للجميع ليظهر عصر الصناعة الثقافية كما يسميها أدورنو ويتحول الفن الى سلعة حياتية ضرورية كما حدث في فن السينما وفن التصوير الفوتوغرافي والتصميم والكرافيك وغيرها.
فلم يعد الفن مقصورا على هاوي الفن الذي يجمع الكتب النادرة، أو على مجموعة محدودة، تقتني لوحات نادرة,وإنما أصبح بفضل وسائل الاتصال الحديثة ثقافة جماعية،فالحفل الموسيقي والعرض المسرحي الذي يحضره مجموعة من البشر، يمكن أن يسمعه ويشاهده الملايين عبر الأقمار الصناعية في جميع أطراف الأرض.
وكذلك تقوم السينما بنقل عمل أدبي إلى المشاهد، فإنها لا تقدم النص الأدبي كما هو، حيث تلغي المسافة بين النص والمتلقي من خلال وعية الأخير المتخيل، وإنما تقدم صورة قابلة للتفاعل لدى ملايين المشاهدين الذين ربما لم يقرأوا النص الأدبي، بل يشاهدون الفيلم وتساهم المشاهدة الجماهيرية، نتيجة وجود هذه المسافة في إزالة الطابع الخاص للنص الأدبي.
فالفن ممارسة اجتماعية مرتبطة بنزعات الإنسان وجنوحه نحو قيم الجمال, يتأثر بروح الزمن الذي يعيش فيه, وهو مؤرخ صادق لعصره . لذا تعتمد القيم الجمالية على أدوات الفنان المحيطة به في كل عصر .