وداعاً مظهر عارف.. أول عراقي يقتحم عالم الصحافة بقلم وجرأة طالب متوسطة
{ كان عارف من مواليد سوق الجديد في كرخ بغداد وليس البصرة
{ فصل من المدرسة في العهد الملكي وأعيد إليها في العهد الجمهوري ولم يدخل الجامعة
{ بدأ مظهر عارف الكتابة الصحفية منذ الأول المتوسط
سلام الشماع
قضى الصحفي العراقي مظهر عارف، في مدينة أنطاليا التركية التي قدم إليها من مغتربه الأمريكي لزيارة بعض أصدقائه، ودفن في مقبرة في المدينة التركية، بعيداً عن وطنه.
على الرغم من أن المعروف عن الصحفي الرائد مظهر عارف أنه من أبناء محافظة البصرة، إلا أنه ولد في العام 1939 بمنطقة الكرخ في الحي المعروف باسم السوق الجديد، وبدأ الدراسة الابتدائية في المدرسة، التي كانت مديرتها ابنة عمته بدرية زوجة الضابط القومي ناظم الطبقجلي، الذي أعدم مع مجموعة من الضباط من زملائه بتهمة التآمر لإسقاط النظام في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم قائد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 التي اسقطت النظام الملكي بتعاون وثيق بين تنظيم الضباط الأحرار والأحزاب الوطنية الديموقراطية والليبرالية والقومية والحزب الشيوعي وحزب الملا مصطفى البرزاني، الديموقراطي الكردستاني، وبعض الشخصيات المستقلة وإقامة أول نظام جمهوري في العراق 1958 وعندما وصل إلى الصف الثاني الابتدائي انتقل مع عائلته إلى مدينة البصرة، بطلب من والده، الذي كان مديراً لإطفائيتها وكان عمه نائباً له ويسكن في الطابق الثاني من المبنى، وفي تلك المدينة واصل الدراسة وتعرض مع أعداد كبيرة إلى الطرد، عندما انتقل إلى الدراسة المتوسطة بسبب موجة من الاضرابات الطلابية، التي عمت مدن العراق كلها ضد الحكومة وشملت الجامعات والكليات والمدارس المتوسطة والثانوية، في خمسينيات القرن الماضي، وقد عاد الطلبة المفصولون إلى مقاعد الدراسة المسائية بعد الثورة، ولكن عارفاً لم يدخل الجامعة بسبب ظروف معينة.
عندما وصل وعائلته إلى البصرة قادمين من بغداد كانت الأمطار المستمرة في يوم وصولهم قد أغرقت المدينة الواقعة في أقصى الجنوب، كما أخبرهم بذلك سائق التاكسي، الذي نقلهم إلى مقر عمل والده وسكنه في الشارع العام الرابط بين منطقتي العشار والبصرة القديمة التي انتقلوا للسكن فيها، في وقت آخر، ودخل إلى مدرسة الموفقية، في المنطقة المسماة بمنطقة السيف، تلميذاً في الصف الثاني، وكان معظم تلامذة الموفقية من الفقراء، وكان فيها تلاميذ من أبناء التجار وملاكي المزارع والبساتين وكان بينهم اثنان من أبناء عائلة الصباح الكويتية في الإمارة، التي كانت تحت النفوذ الاستعماري البريطاني.
التلميذ ناصر، الذي كان يشاركه الجلوس على الرحلة الدراسية نفسها صار رئيساً للوزراء في الكويت، في عقود أخرى، بينما عين التلميذ بدر مديراً عاماً لشرطة الكويت، وكان محمد الصباح والد بدر وناصر أول وزير دفاع للكويت، بعد إعلان استقلالها، مطلع ستينيات القرن العشرين، وتوفي في الثمانينيات من القرن العشرين، وكان ناصر وبدر من أقرب أصدقائه، وكان بدر أكبر سناً منه ومن ناصر ويدرس في الصف الثالث مع أخيه طه، الذي أصبح صحفياً، فيما بعد، وصديقه الشخصي، وعندما زار طه الكويت مع وفد صحفي اتصل ببدر هاتفياً، بعد سنوات طويلة، وطلب منه بإصرار البقاء معه في الكويت إلا أنه رفض العرض.
محطة قطار
في طريقه هو وعائلته إلى حيث مقر عمل والده شاهدوا جنوداً انكليزاً وهنوداً وسيخاً يتوزعون في الشارع الممتد من محطة القطار في منطقة المعقل وحتى دائرة الاطفاء، وقال لهم سائق التاكسي إن هناك جنوداً من الهنود ولكن عددهم أقلّ من الروس والبولنديين في السوق التي تحمل اسم سوق الهنود التي تباع في فروعها المتعددة التوابل الهندية والسلع المنزلية والملابس والأحذية واللوازم المدرسية وغيرها.
كانت البصرة تضم أعراقاً مختلفة، في تلك السنوات القليلة، التي مضت على انتهاء الحرب العالمية الثانية ضد النازية والانتصار على دولها الأساس المعروفة بدول المحور، وكانت تضم ألمانيا وإيطاليا واليابان، وكان فيها الكثير من اليهود العراقيين والكثير من السعوديين والكويتيين، خصوصاً والعمانيين والقطريين والإماراتيين والبحرينيين وكانت الحركة العمالية ناشطة ضد المحتلين البريطانيين وكان نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي المزمن يرسل قوات الشرطة السيارة (النجدة) إلى المنامة لقمع المتظاهرين، ويرسل محققين امنيين عراقيين للتحقيق مع المعتقلين، كما كان هناك عدد كبير من الأرمن وعدد كبير، أيضا، من الإيرانيين، الذين كانوا يسكنون في منازل أغلبها يستخدم لبيع الحشيشة وشرب البابور ولأغراض الجنس وزواج المتعة من الإيرانيات والسمسرة، وفي كل يوم خميس كان المواطنون السود من الأصول الصومالية والإفريقية الأخرى يمارسون طقوسهم الإفريقية ويرقص بعضهم على صوت الطبول وسط حشد من أهالي حي المشراق، الذي يقيمون فيه، في البصرة القديمة ويصبحون خطرين، إلى حد يهدد حياة المشاهدين من راقص أو أكثر من الراقصين، الذين يخرج من أفواههم سائل أبيض ويسقط بعضهم على الأرض مغمياً عليه.
كانت شركات النفط الأجنبية دولة داخل الدولة العراقية وكثيراً ما أعلن عمالها الاضراب عن العمل احتجاجا على الفصل الكيفي وسوء المعاملة وانخفاض مستوى الأجور وعدم توفير بدلات عمل للعاملين والخدمات الصحية، والاجازات المرضية، وإجازات العمل، وغيرها، وكان هناك اتفاق بين عمال النفط في كركوك والبصرة على إعلان اضرابات مشتركة، وكان مثل هذا الاتفاق موجوداً بين عمال النفط العراقيين والإيرانيين كذلك.
كان مظهر عارف في الأول المتوسط عندما نشرت له صحيفة (البصرة) قصة قصيرة، وبعدها نشرت له قصصاً عدة، واحدة منها في صحيفة لا يتذكر اسمها في بغداد، وكتب عارف رسالة إلى العلامة الدكتور مصطفى جواد رد عليها وبعث له بإحدى تلك القصص المنشورة له في الصحيفة البغدادية.كان مظهر عارف يقف، يوماً، في رأس الزقاق، الذي يقيم فيه مع عائلته عندما توقفت امامه إحدى سيارات الشرطة ونزل منها ضابط وطلب منه الصعود إليها لأن والده اتصل بمدير شرطة المدينة، وطلب منه اعتقاله بسبب إحدى القصص، التي نشرت له في صحيفة (البصرة) لأنها موجهة ضده لزواجه من امرأة أخرى، حسب زعمه.
خلال رحلته الطويلة في عالم الصحافة، التي تمتد الى أكثر من ستين عاماً، عمل مظهر عارف مصححاً ومحرراً وكاتباً سياسياً ورئيس أقسام تحقيقات صحفية وصفحات للمحليات ومسؤولاً عن الصفحات الأولى في عدد من الصحف، التي عمل فيها، أو مسؤولاً عن الصفحات السياسية ومنها الصفحات الأولى وسكرتيراً ومديراً ورئيساً للتحرير وصاحب جريدة أو مجلة في العراق وقبرص، وكتب مقالات سياسية أعادت نشرها صحف لوموند الفرنسية وصحف روسية والصحيفة المركزية للحزب الاشتراكي القبرصي وبوربا اليوغسلافية، نقلاً عن الصحف العراقية التي يكتب فيها، وكتب في صحيفة (الوطن) الكويتية مقالاً أو اثنين في الثمانينيات من القرن الماضي، كما نشرت له صحيفة (تشرين) السورية ثلاث مقالات وتوقف هو، بعدها، عن النشر للجوئه إلى سوريا، بعد الاحتلال، وكانت العقيدة والأفكار السياسية للصحف، التي عمل فيها متعددة الاتجاهات: يسارية ويمينية وليبرالية وقومية ناصرية وبعثية وبعضها رسمي.
ومرة، تلقى عرضاً من السفارة الروسية في بغداد في ثمانينيات القرن الماضي لكتابة مقال يقارن بين الماركسية وإلغاء العمال كطبقة وتحويلهم، حسب نظرية العمل لصدام حسين، إلى موظفين لنشره في البرافدا أو الأزفستيا، واتصل بوزير الإعلام الراحل لطيف نصيف جاسم، حول الموضوع فرحب بالفكرة ولكنه امتنع عن تقديم أي تفسير لنظرية العمل لصدام حسين، فلجأ إلى وكيل الوزارة، حينها الشاعر حميد سعيد عارضاً عليه الأمر وخشيته من ركوب ما يعده مغامرة، فاقترح عليه سعيد لقاء الدكتور الياس فرح في القيادة القومية، وكان فرح يعد منظر البعث، واتصل به فعلاً وحدد له معه موعداً وذهب إليه لكنه بدل أن ينجده برأي قال له: "نحن في القيادة نستفيد من مقالات تنشرها صحيفة العراق وانت لا تحتاج إلى رأي آخر".
وأخبرني عارف، مرة، أنه نشر في صحيفة الاشتراكي القبرصية مقالاً حمل عنوان "رئيس منحاز لحركة عدم الانحياز" في العام 1982 وكان رئيس الحركة، آنذاك، هو الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، الذي أظهر انحيازاً إلى إيران، خلال حرب الخليج الأولى، فأرسل كاسترو مبعوثا إلى بغداد، بعد نشر المقال بيومين التقى الرئيس صدام حسين، وتلقى عارف اتصالاً من بغداد نقل له تحيات الرئيس صدام وشكره على ذلك المقال.
وامتدح الرئيس الراحل صدام حسين، في بعض المناسبات، المواضيع السياسية، التي كان يطرحها مظهر عارف في صحيفة (العراق) الكردية والأسلوب، الذي كان يتبعه، آنذاك، في الكتابة، وذلك عندما زار مقر صحيفة الثورة بمناسبة عيد الصحافة، والتقى كادرها الصحفي والإداري وعمال مطبعتها، ونقل التلفزيون تفاصيل تلك الزيارة، ولكن ذلك لم يمنع اعتقاله واستدعاءه للتحقيق في دائرة الأمن بسبب بعض تلك المقالات، خمس مرات، بينها عندما كان يتولى رئاسة تحرير مجلة الرافدين، وقبلها صحيفة بابل، اللتين أسستا بطلب من عدي صدام حسين وكان، كما يقول هو، أحد أصدقائه المقربين منه ومن شقيقه قصي، الذي انقلب ضده بعد أن قرر تأسيس حزب للخضر في العراق، عدّه تابعاً للرئيس الليبي الراحل معمر القذافي لأن اسمه يشبه اسم الكتاب الأخضر للقذافي، الذي أسر وعذب وقتل بوحشية مع أحد أولاده ابان العدوان الإجرامي الخارجي لحلف الناتو وقطر والإمارات وإيران وتركيا على بلاده، بعد سنوات من عملية غزو العراق واحتلاله، الذي نفذتها 40 دولة بالإضافة إلى إيران بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، والمخالفة للقانون الدولي.
أوقات قاسية
إن أقسى الأوقات، التي عانى فيها عارف، خلال عمله الصحفي، كما يقول، هي تلك التي ابتعد فيها عن الصحافة بعد انقلاب شباط 1963 الذي نفذه البعثيون والقوميون الناصريون بقيادة عبد السلام عارف وبدعم من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والأمريكي جون كنيدي، ضد حكومة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم قائد تنظيم الضباط الأحرار، الذي اطاح بالنظام الملكي وأقام أول جمهورية في تاريخ العراق في العام 1958 وهذا طرح لا يمكن فهمه إلا إذا عرفنا أن عارف كان قاسمياً (نسبة إلى عبد الكريم قاسم)، حتى آخر لحظة من حياته، كما عانى أيام تأميم الصحافة على النمط المصري في العام 1967 والمجزرة التي تعرض لها مع أكثر من ثلاثين صحفياً تم فصلهم من صحيفة الجمهورية الحكومية ومجلة الف باء الأسبوعية والرسمية وصحف ومجلات رسمية عدة أيضاً وقطع أي علاقة لهم بالصحافة والإعلام ونقلهم إلى وزارات أخرى، وتم نقل عارف مع أربعة من زملائه إلى وزارة الصحة إلا أنهم قدموا استقالاتهم إلى وزيرها، الذي أعدم في وقت لاحق، خلال سنوات الحرب مع ايران بتهمة استيراد أدوية فاسدة وغير صالحة للمرضى.
يتذكر مظهر عارف أنه اعتقل، في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، بسبب نشاطه الصحفي في البصرة مع سبعين آخرين من العمال والمحامين والمدرسين والأطباء والمحامين بتهمة الهجوم بالحجارة على موكب سيارات تحمل أشخاصا من جماعة الإخوان المسلمين فيما كانت الدبابات تطوف الشوارع وسط منع تجوال وقوات عسكرية مدججة بالأسلحة تقوم بدوريات وبعضها يحيط بالمباني الحكومية لحمايتها وقد اطلق سراح 66 معتقلاً منهم وتقرر إعدام أربعة من بينهم هو وطبيب واثنان من المحامين بقرار من مدير الموانئ العام مزهر الشاوي، الذي كان برتبة لواء وصديقاً مقرباً لكريم قاسم ويتمتع بصلاحيات تفوق صلاحيات المتصرف (المحافظ)، وقد صدر ذلك القرار، الذي أبلغهم به ضابط أمن زارهم بمركز الشرطة من دون محاكمة إلا أن نشر الخبر في بعض الصحف اليسارية في بغداد وإجراء شخصيات سياسية اتصالات مكثفة مع قاسم أسفرت عن إلغاء قرار الشاوي وإطلاق سراحهم من المعتقل.
كان عارف يصف وضعه الاقتصادي بأنه يشبه وضع مصعد دار الجمهورية للصحافة، الذي كان لا يعمل في مرات كثيرة وعندما يتم إصلاحه يصعد وينزل من دون تدخل من أحد، كما كان يرد على مثل هذا السؤال عندما كان أحدهم يوجهه إليه. كانت هوايته، حتى آخر يوم من حياته، هي قراءة الكتب بأنواعها كلها ومتابعة ما يحدث في العالم، وقد هاجر من العراق إلى سوريا، وبعدها إلى أمريكا عن طريق مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للمنظمة الدولية ولم يمارس اختصاصه وأخذ يتلقى راتباً تقاعدياً من الدولة الامريكية ولم يكن يملك راتباً تقاعدياً في العراق الذي يعبده بعد الله، كما كان يقول. قضى مظهر عارف في المنفى ولم تذكره الجهات الصحفية والرسمية في العراق وكأنه لم يكن يوماً صحفياً لامعاً ذائع الصيت بمشاكساته وكتاباته الجريئة التي لا يليق بها الصمت الذي ووجه بها رحيله.