الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هكذا وصف الرّحالة الفارسيّ‮ ‬أبو طالب خان المدينة

بواسطة azzaman

هكذا وصف الرّحالة الفارسيّ‮ ‬أبو طالب خان المدينة

نخبة موصليّي‮ ‬سنة‮ ‬1802‮ ‬كالباريسيّين تهذيباً‮ ‬وثقافةً‮ ‬وأذهاناً‮ ‬نيّرةً
محمّد عجيل
في‮ ‬شتاء سنة‮ ‬1802م،‮ ‬دخل الرّحالة الفارسيّ‮ ‬أبو طالب خان العراقَ‮ ‬من شماليّه الغربيّ،‮ ‬في‮ ‬قافلة كبيرة مؤلّفة من نحو ثلاثة آلاف رجل،‮ ‬يحرسها مئات من الجنود والفرسان العثمانيّين المجهّزين بالبندقيّات الباروديّة ذات الفتيلة،‮ ‬وخيّالةٌ‮ ‬مسلّحون من قبيلة طيء العربيّة،‮ ‬وحين دخل مدينة الموصل مركز الولاية المسماة باسمها،‮ ‬في‮ ‬عهد واليها محمّد باشا بن أمين باشا الجليلي،‮ ‬انبهر بنخبة أبناء المدينة وأعيان سكّانها،‮ ‬وشبّههم بالباريسيّين،‮ ‬وخصّهم بتوصيفات استثنائيّة لم‮ ‬يطلق مثلها على سواهم من أبناء مدن فرنسا كمرسيليا وليون،‮ ‬ومدن إيطاليا كجنوة وليفورن،‮ ‬ثمّ‮ ‬مالطا وأزمير،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن أبناء المدن الإسلاميّة في‮ ‬تركيا ومدن العراق الأخرى التي‮ ‬مرّ‮ ‬بها لاحقاً‮. ‬
الميرزا أبو طالب خان ورحلته
ولد أبو طالب خان في‮ ‬لكنو بالهند سنة‮ ‬1753م،‮ ‬وهو‮ ‬ينحدر من أب تركيّ‮ ‬الأصل فارسيّ‮ ‬المولد هنديّ‮ ‬الإقامة وكان من الأعيان،‮ ‬ومن أمّ‮ ‬فارسيّة،‮ ‬أُعدّ‮ ‬ثقافيّا وقانونيّاً‮ ‬وإداريّاً‮ ‬وسياسيّاً‮ ‬وعسكريّاً‮ ‬ليمكنه أن‮ ‬يبلغ‮ ‬أعلى المناصب في‮ ‬ممالك الهند الإسلاميّة وإماراتها،‮ ‬فشغل مناصب عالية عدّة لسنوات مديدة قبل أن‮ ‬يعزل بسبب الاضطرابات السياسيّة في‮ ‬بلاده،‮ ‬وتوفي‮ ‬سنة‮ ‬1806م بعد ثلاث سنوات من عودته من رحلته،‮ ‬التي‮ ‬قضاها سائحاً‮ ‬مستطلعاً‮. ‬
وتعدّ‮ ‬رحلته هذه فريدةً‮ ‬من نوعها بثراء نصّها الأدبيّ‮ ‬ومضمونها الحضاريّ‮ ‬وفحواها الإنسانيّ‮ ‬وغزارة معلوماتها الاجتماعيّة والتاريخيّة والجغرافيّة،‮ ‬واتساع ما‮ ‬غطّته من الدول والأقاليم والمدن والبلدات والقرى،‮ ‬والأمم والشعوب التي‮ ‬تعزّزت صلاتها الثقافيّة في‮ ‬ذلك العصر وتداخلت تجاراتها،‮ ‬فجاءت الرحلة مكتنزة بالوصف الحيّ‮ ‬النابض بالحياة للإنسان والطبيعة والحيوان والشجر‮.‬
ترجمها مصطفى جواد عن الفرنسيّة
أنجز الدكتور مصطفى جواد ترجمة رحلة أبي‮ ‬طالب خان عن اللّغة الفرنسيّة في‮ ‬العام الأخير من حياته‮ ‬1969 ‮ ‬وطبعت في‮ ‬العام نفسه في‮ ‬كتاب ساعد على نشره المجمع العلميّ‮ ‬العراقيّ،‮ ‬عنوانه‮ "‬رحلة أبي‮ ‬طالب خان إلى العراق وأوربة سنة‮ ‬1213هـ‮ = ‬1799م‮"‬،‮ ‬وقد حظيت الرحلة باهتمام مبكّر من الأوربيّين،‮ ‬فتُرجمت إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والهولنديّة،‮ ‬عن نسختها بالفارسيّة المطبوعة سنة‮ ‬1812 والتي‮ ‬فُقدت ولم‮ ‬يعد لها وجود‮.‬
وكان من حسن حظّ‮ ‬العراق أنّه البلد العربيّ‮ ‬الوحيد الذي‮ ‬كان في‮ ‬صميم مسار الرحلة،‮ ‬ومرّ‮ ‬الرحّالة بمعظم مدنه،‮ ‬من أعالي‮ ‬شماليّه حتّى أقاصي‮ ‬الجنوب،‮ ‬ابتداءً‮ ‬من سنجار فالموصل وقره قوش وعنكاوة،‮ ‬مروراً‮ ‬بآلتون كُبْري‮ ‬وكركوك وقَره تَبّة،‮ ‬حتّى بغداد وسامراء وكربلاء والحلّة والنجف وسوق الشيوخ،‮ ‬وانتهاءً‮ ‬بالقُرنة والمعقل والبصرة،‮ ‬فوثّق أحوالها الاجتماعيّة والإداريّة والاقتصاديّة والعمرانيّة سنة‮ ‬1802م،‮ ‬بعد أن طاف حول إفريقيا متّجها إلى أوربا،‮ ‬مقيماً‮ ‬أو سائحاً‮ ‬في‮ ‬أهم مدنها ودولها المتمدّنة،‮ ‬ثمّ‮ ‬جال في‮ ‬أنحاء الدولة العثمانيّة التي‮ ‬كانت تسيطرعلى أجزاء واسعة من أوربا الشرقيّة والعالم العربيّ‮ ‬كله‮. ‬
الموصل سنة‮ ‬1802
مكث أبو طالب خان بالموصل خمسة أيّام،‮ ‬صادفت الأيّام‮ ‬18-22 من شهر رمضان لسنة‮ ‬1882م،‮ ‬وقد لقي‮ ‬حفاوةً‮ ‬كبيرةً‮ ‬من واليها محمّد باشا الجليلي‮ ‬لِما كان‮ ‬يحمل من كتب توصية من السلطان العثمانيّ،‮ ‬وتحدّث عن الوالي‮ ‬قائلاً‮: "‬فتلقاني‮ ‬تلق‭?‬يا حسنا جدّاً،‮ ‬ودعاني‮ ‬أن أقضي‮ ‬عدّة أيام معه،‮ ‬وهذا الأم‭?‬ير من سلالة قدامى السلاط‭?‬ين في‮ ‬مدينة القسطنطيني‭?‬ّة،‮ ‬وله سطوة عظ‭?‬مة وي‭?‬حترمه الشعب ك‭?‬ثي‭?‬راً‮"‬،‮ ‬على أنّ‮ ‬مؤرّخي‮ ‬العراق المحدثين‮ ‬يذكرون أنّ‮ ‬الأسرة الجليليّة التي‮ ‬حكمت الموصل لأكثر من قرن،‮ ‬عربيّة الأرومة من ديار بكر‮.‬
وذكر الرحّالة أنّ‮ ‬الوالي‮ ‬أمر ابنه محمود بك قائم مقامه أن‮ ‬ي‭?‬عتني‮ ‬به وي‭?‬رعاه،‮ ‬وقال واصفاً‮ ‬نجل الوالي،‮ ‬الذي‮ ‬سيتولى فيما بعد ولاية الموصل لمدّة قصيرة،‮ ‬والجولات التي‮ ‬خصّه بها ليقف على أبرز معالم المدينة وما حولها‮: "‬ومحمود بك شابٌّ‮ ‬جمي‭?‬لٌ‮ ‬جدّ‮ ‬مهذّب،‮ ‬ذو خلق محبوب جدّاً،‮ ‬وكان كل‮ ‬ي‭?‬وم‮ ‬ي‭?‬ع‭?‬رني‮ ‬أحد أفراسه،‮ ‬وي‭?‬ذهب بي‮ ‬إل‭?‬ى مآثر ما حول الموصل وعجائبها فيريني‮ ‬إي‭?‬ّاها،‮ ‬وك‭?‬نّا دائما مصطحبي‭?‬ن ومصحبي‭?‬ن بمقنب من الخي‭?‬الة،‮ ‬فزرتُ‮ ‬قبر النّبي‮ ‬ي‭?‬ونس والقدّي‭?‬س جرج‭?‬س عل‭?‬ه السّلام‮".‬
ثمّ‮ ‬وصف المدينة،‮ ‬فقال‮: "‬والموصل قائمة على ضفة دجلة في‮ ‬ك‭?‬ورة الجزي‭?‬رة التي‮ ‬سمّ‭?‬ت ك‭?‬ذلك لوقوعها بين نهري‭?‬ن،‮ ‬ولهذه المدي‭?‬نة ك‭?‬ما لماردي‭?‬ن خندق عظي‭?‬م وسور ف‭?‬يه عدّة بدنات،‮ ‬وي‭?‬ُعْبَرُ‮ ‬نهرُها على‮  ‬جسر من الحجارة‮"‬،‮ ‬وتطرّق إلى خيراتها فقال‮: "‬ولم آك‭?‬ل خي‭?‬راً‮ ‬من خبز الموصل ولحم ماشي‭?‬تها،‮ ‬وف‭?‬ها ك‭?‬لّ‮ ‬نوع من الفواك‭?‬ه ال‭?‬يابسة‮"‬،‮ ‬ولا تزال المدينة‮- ‬برغم ما أصابها من دمار‮- ‬محتفظةً‮ ‬بهذه المزايا التي‮ ‬أعجبت أبا طالب خان،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن‮ ‬غيرها‮.‬
ثمّ‮ ‬قال عن نخبة المدينة وأعيانها‮: "‬وجم‭?‬ع موظّف‭?‬‮ ‬الدولة وأع‭?‬ان السكّان لمّا رأوا العنا‭?‬ة والرعا‭?‬ة اللت‭?‬ن لق‭?‬تهما من محمّد باشا،‮ ‬هرعوا إليّ‮ ‬‭?‬قدّمون لي‮ ‬احترامهم،‮ ‬و‮ ‬‭?‬ان هؤلاء ناساً‮ ‬مثقّف‭?‬ن خاصّةً،‮ ‬وذوي‮ ‬أخلاق محبوبة وتفك‭?‬ر واسع‮". ‬
ولم‮ ‬يكتف أبو طالب خان بإسباغ‮ ‬هذه الصفات الإيجابيّة على نخبة المدينة،‮ ‬بل أضاف قائلاً‮: "‬ومنذ مغادرتي‮ ‬بار‭?‬س لم ألاقِ‮ ‬رجالاً‮ ‬ذو‭?‬‮ ‬أذهان ن‭?‬ّرة مثلهم‮".‬
وعند البحث في‮ ‬الرحلة عن تقييم هذا الرحّالة للباريسيّين،‮ ‬نقرأ‮: "‬الفرنسيّون،‮ ‬في‮ ‬الأغلب،‮ ‬ولا سيما الباريسيّين منهم،‮ ‬على‮ ‬غاية من أدب النفس،‮ ‬فهم لا‮ ‬يستعملون البتّة كلمة‮ (‬نعم‮) ‬ولا كلمة‮ (‬لا‮)‬،‮ ‬بل‮ ‬يستعينون على تأدية ذلك بالتعريض،‮ ‬وهم لا‮ ‬يملّون من دلالتك على طريقك،‮ ‬ولا من إيضاحِ‮ ‬أمرٍ‮ ‬لك ولا‮ ‬يتعبون،‮ ‬ويعدّون هذه المجاملة علامةَ‮ ‬التهذيب الحسن‮".. ‬وفي‮ ‬الرحلة الكثير من المقارنات بين أخلاق الإنكليز المعجَب أبو طالب خان بما حقّقوه من تقدّم،‮ ‬وطباعهم،‮ ‬وبين الفرنسيّين،‮ ‬وهي‮ ‬تميل في‮ ‬معظمها لصالح الفرنسيّين‮.‬
إنّ‮ ‬هذا التوصيفات تكتسب قيمة كبيرة من عدّة اعتبارات،‮ ‬فأبو طالب خان لا تربطه بهذه المدينة وأهلها صلةٌ‮ ‬تميّزها عن سائر ما مرّ‮ ‬به مدن وبلدات لا تحصى في‮ ‬الشرق أو الغرب،‮ ‬كما أنّ‮ ‬الرجل ما اختار طريق العودة إلى بلاده عبر العراق،‮ ‬إلّا لأنّه كان راغباً‮ ‬بشدّة في‮ ‬زيارة مراقد أئمة آل البيت في‮ ‬بغداد وسامراء وكربلاء والنجف،‮ ‬ولقد زارها كلّها كما زار‮ ‬غيرها،‮ ‬لكنّه لم‮ ‬يقل في‮ ‬نخبتها شيئاً‮ ‬من المدح كما فعل في‮ ‬توصيف أعيان الموصل ونخبتها المثقّفة‮.‬
بين لندن وبغداد
ولكي‮ ‬يتموضع هذا المديح العالي‮ ‬في‮ ‬إطاره التاريخيّ،‮ ‬اقتبس من كلام الرحّالة خلاصةً‮ ‬طريفةً‮ ‬أوجز فيها أحكامه على الدول والمدن التي‮ ‬مرّ‮ ‬بها في‮ ‬رحلة الذهاب،‮ ‬ومثّلت لندن ثمّ‮ ‬باريس ذروة تفضيلاته،‮ ‬فقال‮: "‬إنّي‮ ‬منذ أوّل‮ ‬‭?‬وم من فصولي‮ ‬حتّ‭?‬‮ ‬وصولي‮ ‬إل‭?‬‮ ‬إنكلترا،‮ ‬‭?‬نتُ‮ ‬أر‭?‬‮ ‬تزا‭?‬دَ‮ ‬البهاء والنفاسة ف‭?‬‮ ‬الأش‭?‬اء،‮ ‬فكلّ‮ ‬مد‭?‬نةٍ‮ ‬أبلغُها أراها أجمل من التي‮ ‬غادرتُها‮". ‬
ولكن كان الأمر على العكس من ذلك في‮ ‬رحلة العودة إلى بلاده،‮ ‬إذ كان الخطّ‮ ‬البيانيّ‮ ‬لدرجة الرقيّ‮ ‬والتحضّر في‮ ‬انحدار كلّما ابتعد عن لندن وباريس‮. ‬وقال موضّحاً‮: "‬و‭?‬ان الأمر بالضّد ح‭?‬ن رجعت إل‭?‬‮ ‬بلاد الهند،‮ ‬وعل‭?‬‮ ‬هذا ظهر لي‮ ‬بعد إقامة طو‭?‬لة ف‭?‬‮ ‬لندن ثمّ‮ ‬ز‭?‬ارتي‮ ‬بار‭?‬س أنّ‮ ‬هذه المد‭?‬نة الأخ‭?‬رة ه‭?‬‮ ‬دون الأول‭?‬‮ ‬‭?‬مالا من‮ ‬غ‭?‬ر شكّ،‮ ‬أَجَلْ‮ ‬ف‭?‬ها آثارٌ‮ ‬أجمل من آثار لندن،‮ ‬ولكنّها أقلّ‮ ‬تنظ‭?‬ماً‮ ‬ونظافةً‮ ‬واستنارةً‮ ‬باللّ‭?‬ل،‮ ‬والم‭?‬اد‭?‬ن العامّة والحدائق أقلّ‮ ‬عدداً،‮ ‬فظننتُ‮ ‬أنّي‮ ‬هو‭?‬تُ‮ ‬من الجنّة إل‭?‬‮ ‬النار،‮ ‬ولم أشعر بجم‭?‬ع جمال عاصمة فرنسا إلّا عندما‮ ‬‭?‬نتُ‮ ‬ف‭?‬‮ ‬إ‭?‬طال‭?‬ا،‮ ‬فمدن إ‭?‬طال‭?‬ا‮- ‬عل‭?‬‮ ‬حسب رتبتها ف‭?‬‮ ‬الذ‭?‬ر‮- ‬ظهرتْ‮ ‬لي‮ ‬جم‭?‬لةً‮ ‬بالمقابلة ب‭?‬نها وب‭?‬ن القسطنط‭?‬ن‭?‬ّة،‮ ‬وظهرتْ‮ ‬لي‮ ‬هذه الأخ‭?‬رةُ‮ ‬جنّةَ‮ ‬الأرض ح‭?‬نما تذ‭?‬ّرتُ‮ ‬بغدادَ‮ ‬والمدن الأخر‭?‬‮". ‬
وإذن فلم‮ ‬يكن حكمه على نخبة الموصليّين كلاماً‮ ‬إنشائيّاً‮ ‬عابراً،‮ ‬فالرجل كان شاعراً‮ ‬ومثقّفاً‮ ‬وسياسيّاً‮ ‬محنّكاً،‮ ‬يمثّل الثقافة الإسلاميّة وتقاليدها في‮ ‬إيران والهند آنذاك،‮ ‬وكان شديد الدقّة في‮ ‬أحكامه،‮ ‬ولم‮ ‬يكن مسرفاً‮ ‬أبداً‮ ‬في‮ ‬مدحه لما‮ ‬يراه،‮ ‬بل كان على العكس من ذلك،‮ ‬يُكثر من النقد للظواهر والأشخاص والأوضاع التي‮ ‬عايشها ولم‮ ‬ينسجم معها،‮ ‬خصوصاً‮ ‬قبل وصوله إلى أوربا،‮ ‬وفي‮ ‬رحلة عودته إلى بلاده،‮ ‬وخصّ‮ ‬الإنكليز المعجب بهم بكثير من الذمّ‮ ‬لبعض خصالهم وسلوكهم ونمط حياتهم مقابل قليل من المديح‮. ‬
صفات استثنائيّة
أذكر هذه التفاصيل كلّها لأدلّل على قيمة أحكام هذا الرحالة على نخبة المجتمع الموصليّ،‮ ‬ولأثبت أنّ‮ ‬توصيفه على هذا النحو المثير لنا اليوم،‮ ‬لم‮ ‬يأتِ‮ ‬من فراغ،‮ ‬وإنّما جاء بعد رحلة طويلة شاهد فيها معظم الجزء المعمور من العالم بطرفيه الشرقيّ‮ ‬والغربيّ،‮ ‬وعايش حضاراته وشعوبه وأممه المتباينة تطوّرا وانحطاطاً،‮ ‬وقارن بينها من زوايا عدّة،‮ ‬فأصبح لكلامه وزن واعتبار‮.‬
وفي‮ ‬عودة أخيرة إلى رأي‮ ‬أبي‮ ‬طالب خان بنخبة أبناء الموصل،‮ ‬نراه‮ ‬يختتم توصيفاته،‮ ‬بهذه العبارات المثيرة‮: "‬ووزراء السلطان لو‮ ‬‭?‬انوا‮ ‬‭?‬ملكون عُشْر براعتهم‮ [‬يقصد أعيان الموصل‮] ‬فقط،‮ ‬ما خش‭?‬ت عل‭?‬‮ ‬ما‮ ‬‭?‬ستقبله‮ ‬«الباب العثمانيّ» من مقاد‭?‬ر‮". ‬ثمّ‮ ‬ذكر أنّ‮ ‬رؤساء‮ ‬‭?‬تّاب الباشا‮ "‬هم أحمد أفندي‮ ‬وأخوه‮ ‬‭?‬لاهما،‮ ‬وسل‭?‬م بك الحا‭?‬م السابق لكردستان،‮ ‬وهو ذو معاشرة جدّ‮ ‬لط‭?‬فة و‭?‬ج‭?‬د التكلّم بالفارس‭?‬ّة،‮ ‬وله عدّة أتباع من الترك ذوي‮ ‬مواهب متم‭?‬ّزة‮". ‬
لقد بلغ‮ ‬الرحّالة في‮ ‬العبارة الأولى من الاقتباس أعلاه،‮ ‬الغاية القصوى من مدح نخبة موصليّي‮ ‬زمانه،‮ ‬فقد كانت الموصل مجرّد مدينة ومركز ولاية من بين عشرات المدن والولايات الكبرى التابعة للدّولة العثمانيّة،‮ ‬الممتدّة أملاكها بين ثلاث قارّات،‮ ‬وقد جال أبو طالب خان في‮ ‬عاصمتها القسطنط‭?‬ن‭?‬ّة‮ (‬اسطنبول الآن‮)‬،‮ ‬ومرّ‮ ‬بأعظم ولاياتها في‮ ‬أوربا وآسيا،‮ ‬ولكنّه لم‮ ‬يصف أبناء مدينة منها بمثل هذه الأوصاف الاستثنائيّة،‮ ‬بحيث‮ ‬يجعلهم الأنموذج العالي‮ ‬الذي‮ ‬يتوجّب أن‮ ‬يقتدي‮ ‬به وزراء السلطان العثمانيّ،‮ ‬لينقذوا امبراطوريّتهم الشاسعة ممّا تخطّط لها الدول القويّة الكبرى التي‮ ‬كانت تتربّص بها‮. ‬
جنود موصليّون‮ ‬يحمون‮ ‬
النجف
في‮ ‬العام الذي‮ ‬سبق وصول أبي‮ ‬طالب خان إلى الموصل،‮ ‬كان واليها محمّد باشا الجليلي‮ ‬قد قام بمأثرة عظيمة تسجّل في‮ ‬تاريخه وتاريخ مدينته وتاريخ العراق كلّه،‮ ‬ولم‮ ‬يطّلع عليها هذا الرّحالة،‮ ‬فيما‮ ‬يبدو،‮ ‬فقد‮ ‬غزا الوهابيّون القادمون على جمالهم من أرض نجد مدينةَ‮ ‬كربلاء ومرقد الإمام الحسين في‮ ‬يوم عيد الغدير،‮ ‬مستغلّين توجّه معظم سكّانها لزيارة مرقد الإمام علي‮ ‬بالنجف،‮ ‬فاجتاحوا المدينة ونهبوا مرقد الإمام الحسين وخرّبوه،‮ ‬وقتلوا مَن وجدوا من أهل كربلاء أمامهم،‮ ‬وكانت واقعة مؤلمة،‮ ‬وانتهاكاً‮ ‬فظيعاً‮ ‬لقدسيّة المدينة،‮ ‬ومجزرة مروّعة هزّت وجدان العراقيّين كلّهم،‮ ‬فتنادوا لحماية مشهد الإمام علي‮ ‬الذي‮ ‬كان متوقّعاً‮ ‬أن‮ ‬يكون هدفاً‮ ‬لغارة ثانية،‮ ‬وكان للموصل وقفتها المشرّفة في‮ ‬الدفاع عن النجف ومرقد الإمام علي،‮ ‬ويذكر المؤرّخ الموصليّ‮ ‬ياسين العمري‮ ‬في‮ ‬أحداث سنة‮ ‬1217هـ‮= ‬1801م من كتابه‮ "‬غاية المرام في‮ ‬تاريخ محاسن بغداد دار السلام‮"‬،‮ ‬ما نصّه‮: "‬أرسل والي‮ ‬الموصل محمّد باشا الجليلي‮ ‬مائتين وخمسين رجلاً‮ ‬من أهل الموصل لمحافظة مشهد الإمام علي‮- ‬رضي‮ ‬الله عنه‮- ‬فساروا من بغداد‮"‬،‮ ‬وكان من نتيجة تنادي‮ ‬العراقيّين للدفاع عن النجف،‮ ‬أن ردعت المهاجمين عن تحقيق هدفهم الشنيع‮.‬
وقد زار أبو طالب خان مدينة كربلاء،‮ ‬ووقف على ما تركه الاعتداء على حرمة الإمام الحسين من ألم وآثار نفسيّة عميقة على أهل كربلاء خصوصاً،‮ ‬وما خلّفه هذا الهجوم على المدينة وزوّارها من مآسٍ،‮ ‬وخسارات فادحة في‮ ‬الأرواح والممتلكات،‮ ‬ومنهم عمّتا الرحّالة نفسه،‮ ‬اللتان صادفهما هناك وقد خسرتا في‮ ‬تلك الواقعة كلّ‮ ‬ما تملكان من مالٍ‮ ‬وحليّ،‮ ‬فساعدهما بما قدر عليه‮. ‬
لكي‮ ‬يعود لموصل اليوم ربيعاها‮ ‬
واليوم،‮ ‬وبعد‮ ‬218 عاماً‮ ‬على مرور ذلك الرّحالة بالمدينة،‮ ‬وقوله في‮ ‬نخبتها ما قال،‮ ‬تبدو الموصل‮- ‬وخصوصاً‮ ‬الجانب الأيمن منها‮- ‬وكأنّها خرجت للتّو من معركة تحريرها من مسوخ تنظيم داعش الإرهابيّ،‮ ‬التي‮ ‬جرت قبل ثلاثة أعوام،‮ ‬فما زالت أكوام الخرائب والأنقاض تغطي‮ ‬المدينة القديمة،‮ ‬ويعاني‮ ‬سكّانها من نقص الخدمات،‮ ‬وصعوبة التكيّف مع ما حلّ‮ ‬بها من دمار هائل‮. ‬
تحتاج هذه المدينة لكي‮ ‬تنهض مجدداً،‮ ‬بجانبيها وجسورها وأحيائها ومؤسّساتها وضواحيها،‮ ‬إلى همّة مخطّطين ومهندسين وبُناةٍ،‮ ‬مشابهة لهمّة الجنود الموصليّين الذين دافعوا عن النجف ومرقد الإمام علي‮ ‬سنة‮ ‬1801م،‮ ‬ومماثلة لهمّة مقاتلي‮ ‬العراق وفدائيّة شبابه،‮ ‬ومعظمهم من المحافظات الوسطى والجنوبيّة،‮ ‬وهم‮ ‬يحرّرون الموصل سنة‮ ‬2017 مستوحين نبل عراقيّتهم،‮ ‬وشبيهة أيضاً‮ ‬بهمّة هؤلاء الشباب أنفسهم حين اكتظّت ساحات الاعتصامات بسلميّتهم ورفرفة أعلام بلادهم،‮ ‬مطالبين باستعادة وطنهم لعافيته من‮ ‬غول الفساد،‮ ‬بعد أن حرّروا مدنه من‮ ‬غول الإرهاب وصانوا حدود بلادهم‮.‬
ويبقى الرهان قائماً‮ ‬على أحفاد أولئك الرجال الموصليّين الذين أبهروا الرحّالة أبا طالب خان بذكائهم وتهذيبهم وقدراتهم الفذّة،‮ ‬فهم أهل لأن‮ ‬يكونوا في‮ ‬صدارة بناة مدينتهم وبلادهم،‮ ‬فبوفاء هؤلاء الأحفاد‮- ‬من الجنسين‮- ‬لموصلهم وعراقهم وصدق انتمائهم المشهود لهما،‮ ‬وبتعاون الجهات الحكوميّة والدوليّة الساندة معهم لتمكينهم،‮ ‬وبإسهاماتهم التطوعيّة ومبادراتهم الخلّاقة وتفانيهم في‮ ‬تسريع خطوات الإعمار،‮ ‬سيعود عمّا قريب للموصل الساحرة ربيعاها‮. ‬

 


مشاهدات 917
أضيف 2020/06/05 - 11:50 PM
آخر تحديث 2024/06/29 - 6:53 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 134 الشهر 134 الكلي 9362206
الوقت الآن
الإثنين 2024/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير