ما حدث في سوريا خلال الأيام الأخيرة لم يكن ثورة ولا انقلاباً ولا حركة تصحيحية، إنه ببساط موت سريري لنظام أدركته الشيخوخة، ولم يعد قادراً على البقاء، فلم يكن هناك بمواجهته جيش ومقاتلون ومعدات ثقيلة.
لقد وصل هذا النظام إلى نقطة اللاعودة.
إن أسباب هذا الضعف كثيرة، لكن أهمها على الإطلاق الوضع الاقتصادي المتهالك، الذي مني به بعد عام 2011، فقبل هذا التاريخ كانت سوريا تزحف بجرأة نحو القمة، وكانت عملية التصنيع والإنتاج والتطوير قائمة فيها على قدم وساق، وكانت هناك نهضة أدبية وفنية واضحة، أما حينما اندلع (الربيع السوري)، وتصاعدت معه لغة السلاح، فقد قسمت البلاد إلى ثلاثة أقاليم يعادي بعضها بعضاً.
استقل الكرد بالمنطقة الشرقية ومنعوا عن العرب الغاز والنفط والغذاء، بحماية أميركية.
وأعلن (الإسلاميون) استحواذهم على الشمال تحت رعاية تركية، أما (نظام قيصر) الذي يعني إحكام الطوق على الصناعة والزراعة والتجارة، فقد كان من نصيب ما تبقى من الدولة السورية.
وحينما يتحدث الناس عن سوريا فهم يقصدون كما هو واضح الجزء الأخير منها، وهو يضم الغالبية العظمى من السكان، أما الجزءان الأول والثاني فكانا يتمتعان بالدعم والمباركة والتأييد من جهات شتى، أي أن الجزء العربي هو الهدف الذي كان توجه له السهام من كل حدب وصوب.
لقد نالت منه الحرب الأهلية والعقوبات وأوجعه الحرمان من الموارد وتفكيك البنية التحتية طوال 13 عاماً. وكانت معاول الهدم تقصده دون سواه، فعجز عن إعالة شعبه، ولم يتمكن من مد يد العون لأشقائه الذين كانوا يعتبون عليه، خصوصاً بعد اندلاع مواجهات غزة. هذه الحال ذاتها حدثت في العراق في عقد التسعينات، حينما لبث 13 عاماً يعاني من الحصار والفقر والجوع، وتفشي الأمراض الاجتماعية من فساد ورشوة وطائفية، فلما اجتاحته جنود الحلفاء، سقط من دون مقاومة تذكر.
ولست أرى أن القوى التي أطبقت على الساحة السورية الآن، تملك القدرة على البقاء طويلاً إذا لم تستطع توحيد البلاد، وإعادة مصادر الطاقة والمال إليها، وهي الآن بحوزة القوات الكردية التي تخطط كأخواتها في العراق وتركيا وإيران للاستقلال، وهي تعلم أن انعزالها عن باقي المدن والمحافظات السورية كان السبب الأهم في سقوط نظام الأسد، وإذا ما استطاعت الاحتفاظ بوضعها هذا، الذي دعمته قوى كبرى، فإن (دولة المعارضة) ستتهاوى في أول الطريق. إن كل الممالك والامبراطوريات القديمة، انهارت بهذه الطريقة، وتقاسمتها قوى وممالك وجماعات وحكومات ضعيفة، ولم تلبث هذه الدول أن سقطت بعد سنوات، هذا هو ما حدث في مراحل كثيرة من التاريخ، فحينما تحول طريق الحرير عن التجار والبحارة العرب في القرن السادس عشر مثلاً، بقدوم الأساطيل الأوربية واكتشاف رأس الرجاء الصالح وطريق الهند، لم تقم للعرب قائمة، وسرعان ما تهاوت أقوى دولة لديهم، وهي دولة المماليك في مصر والشام على يد قوات بني عثمان، فهوت حضارتهم من شاهق، وأطبقت عليهم العتمة، وأمضوا أربعة قرون تقريباً في الظل، لا يسمع لهم صوت ولا يكترث بهم أحد. ربما سيحصل النظام الجديد في سوريا على جرعة مقوية برفع العقوبات عنه، وقد يشعر المجتمع السوري بشيء من الاسترخاء، لكن مرحلة المواجهات الحقيقية المؤجلة آتية لا محالة، فمما لا شك فيه أن القوى التي تقف وراء هذا التغيير ليست متجانسة ولا متماثلة، ولا يمكن أن تجتمع النقائض على هذا النحو. إن الربيع السوري الحقيقي آت، وبه ستتم غربلة الأشخاص والمواقف، ولن يصح حينها إلا الصحيح.