الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
البحث عن وليد مسعود

بواسطة azzaman

اذن وعين

البحث عن وليد مسعود

عبد اللطيف السعدون

 

رحل جبرا إبراهيم جبرا عنا في مثل هذه الأيام من عام 1994، وترك لنا «البحث عن وليد مسعود» وسبعين كتابا آخر بين رواية ونقد وأشعار وتراجم، الى جانب لوحات ورسوم، واشياء كثيرة اخرى، وفي هذا كله وجدنا ما يشبه بلاده الأولى فلسطين، وما لا يشبهها، وإذ سعى بعض الأدباء والمثقفين العراقيين لتبني فكرة جمع آثاره في «متحف» يقام في منزله في شارع الأميرات، شارع الطبقة البغدادية  الارستقراطية، يليق به وبمكانته المحفوظة في الثقافة العربية فان المسعى لم يقدر له أن يكتمل لأسباب بعضها عائلي، وبعضها مرتبط بشكليات حكومية الى أن جاء القصف الأميركي للمنزل  ليعصف بما تركه الراحل الكبير من ثروة ثقافية تذكر وتستعاد. كان جبرا استوحى في رواية «البحث عن وليد مسعود» تجربته الشخصية في جوانبها الاجتماعية والثقافية والروحية والسياسية معا، وحاول تجسيدها في هذه الرواية وفي رواياته الأخرى، بخاصة «البئر الأولى» و»شارع الأميرات»، وبدا كما لو ان كل رواية تكمل الأخرى، وعرض لنا في سردية متنقلة بين المكان والزمان والأشخاص تلك السيرة العريضة الحافلة بوقائعها ومتاهاتها، منذ أن نزح من «بيت لحم» وهو صغير، ومنذ أن جاب في شبابه بلادا لم يعرفها، وعاش صراعات حادة في فكره وقلبه، وبدت تلك التجربة في فرادتها وعنفوانها موزعة بين الحب والضياع والهجرة والسعي الى العمل من اجل قضية بلاده ثم التوق لفعل شيء من أجلها، وقد حصل على فترة استقرار وطمأنينة محسوبة عندما أقام في بغداد، وتآلف معها، واختبر مجتمعها الذي مثل في تلك الفترة تطورا مدنيا ناهضا وشفافا، وتعرف خلال اقامته التي امتدت عقودا الى نخبة مثقفي العراق وكتابه وشعرائه وقنانيه حتى أصبح واحدا منهم، صار عراقيا صميميا كما هو فلسطيني صميمي.

مقاطع رمزية

وفي تقمصه لشخصية وليد مسعود نجد خياره واضحا، الوقوف على المسافة صفر بين رؤيته للمرأة الأنثى الرقيقة كوطن وبين الوطن الأول الذي حمل طموحه وأحلامه ومشروعه الروائي، وقد كشف لنا عبر العديد من المقاطع الرمزية في رواياته عن عمق تعلقه بقضيته، خذ مثلا مقطع ترك «وليد مسعود» لسيارته على طريق بغداد- دمشق الصحراوي ، واختفائه في لا مكان، وعدم تمكن أقرب الناس اليه، من أصدقائه وحبيباته من ملاحقة أثره، وهنا تبدو رمزية الاختفاء في الصحراء، وعلى الطريق بين عاصمتين كانتا في حينه تتجاذبان مشروعا قوميا واحدا ينظر الى فلسطين على أنها قضيته المركزية ومحور فاعليته، وقد برز لاحقا جانب آخر مثلته رمزية الاختفاء، هو رمزية انقطاع التواصل بين بغداد ودمشق بما يعنيه من انكفاء المشروع القومي وتراجع القضية التي شكلت مركز اهتمامه ومحور فاعليته.

وثمة كومة «رمزيات» وألغاز أخرى عبرت عنها التهويمات التي بثها وليد في شريط التسجيل الذي عثر عليه الأصدقاء في سيارته، عكست شخصية الفلسطيني التائه في الصحراء لكنه المتمسك بالأمل في أن يصل الى ما يريده يوما ما، وعينه على فلسطين، وتظل مدينة بيت لحم في القلب وفي العقل، فيما تظل بغداد على مد النظر، وتحضر الانثى كما تحضر فلسطين، كلتاهما وطن، وعلى قاعدة «السرد المراوغ» لا يتردد وليد في الاستغراق في الذكريات معتمدا ليس على تاريخه الشخصي بل وعلى تاريخ وطنه الأول أيضا، وأيضا على تاريخ وطنه الأكبر، وهنا نلحظ، في شخصية وليد،  تقدم الفلسطيني المناضل من أجل قضيته الى الامام فيما يتراجع الشاب العابث الموسوم بالخدر.

بنفس الحيوية تنضح روايات جبرا الأخرى بدقائق وتفصيلات الحياة الاجتماعية والثقافية الفلسطينية- العربية في فترة قدر لها أن تشهد كل ارهاصات التغيير، وأن تكتسب لاحقا وصف «الزمن الجميل» الذي عمر بين خمسينيات القرن الراحل ومنتصف سبعينياته، وهو الزمن الاعمق والأغنى بكل ما فيه ومنه، قبل أن يداهمنا زمن التطبيع والتراجعات المهينة، وعبث السياسيين، وخطط الترويض، والترهيب، والاذلال.

ولعلنا مرة أخرى، نحن الذين عشنا مع «وليد مسعود» آماله وأمانيه، وصور خيباته نتطلع لأن تصبح وقائع بلداننا الماثلة أمامنا اليوم معبرا عريضا على طريق القطع بين زمنين، وإذا كانت الميثولوجيا المهدية تبشرنا بظهور من «يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما» فان التغريبة الفلسطينية المديدة تعلمنا اليوم أن «وليد مسعود» وأشباهه سوف يرجعون من غيباتهم ليحرروا أرضهم التاريخية من دنس الصهاينة ومن أرجاسهم، ويقيموا عليها دولتهم.

 


مشاهدات 183
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/12/14 - 12:54 AM
آخر تحديث 2024/12/14 - 10:45 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 409 الشهر 5950 الكلي 10062045
الوقت الآن
السبت 2024/12/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير