الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دُرُجُ‭ ‬الحكمة

بواسطة azzaman

دُرُجُ‭ ‬الحكمة

 محمد غاني

 

‮«‬ذكر‭ ‬الله‭ ‬يبني‭ ‬الدروج‭ ‬في‭ ‬قصور‭ ‬الجنة‭ ‬‮«‬‭ ‬هكذا‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬صغري‭ ‬أسمع‭ ‬جدتي‭ ‬تنشد‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬زجلية‭ ‬لا‭ ‬أذكركل‭ ‬أبياتها‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬عالقا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬و‭ ‬ان‭ ‬كان‭ ‬قليلا‭ ‬فهو‭ ‬كاف‭ ‬ليجعلني‭ ‬أستنتج‭ ‬أنه‭ ‬رغم‭ ‬ان‭ ‬جدتي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬لم‭ ‬تلج‭ ‬المدرسة،‭ ‬الا‭ ‬انها‭ ‬كانت‭ ‬تشير‭ ‬الى‭ ‬جنة‭ ‬المعارف‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬جنة‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬ان‭ ‬يلجها‭ ‬المؤمن‭ ‬الا‭ ‬و‭ ‬حقق‭ ‬مقصدا‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬مقاصد‭ ‬النبوة‭ ‬بتذوقه‭ ‬لطعم‭ ‬الايمان،‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مسند‭ ‬الامام‭ ‬أحمد‭ ‬‮«‬‭ ‬عن عامر‭ ‬بن‭ ‬سعد عن عباس‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬المطلب أنه‭ ‬سمع‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يقول ذاق‭ ‬طعم‭ ‬الإيمان‭ ‬من‭ ‬رضي‭ ‬بالله‭ ‬ربا‭ ‬وبالإسلام‭ ‬دينا‭ ‬وبمحمد‭ ‬نبيا‭ ‬رسولا‮»‬‭ ‬فالوجبات‭ ‬الروحية‭ ‬دوما‭ ‬معدة‭ ‬و‭ ‬تنتظر‭ ‬المتذوقين‭ : ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬ابن‭ ‬عطاء‭ ‬الله‭ ‬السكندري‭ : ‬‮«‬العبارة‭ ‬قوت‭ ‬لعائلة‭ ‬قلوب‭ ‬المستمعين‭ ‬،‭ ‬وليس‭ ‬لك‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬له‭ ‬آكل‮»‬‭. ‬جاء‭ ‬في‭ ‬ايقاظ‭ ‬الهمم‭ ‬شرح‭ ‬الحكم‭ ‬لابن‭ ‬عجيبة‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬هاته‭ ‬الحكمة‭:  ‬العائل‭ ‬هو‭ ‬الفقير‭ ‬،‭ ‬والعائلة‭ ‬جمع‭ ‬له‭ ‬،‭ ‬فعبارة‭ ‬العارفين‭ ‬قوت‭ ‬لقلوب‭ ‬الفقراء‭ ‬الطالبين‭ ‬لزيادة‭ ‬إيقان‭ ‬قلوبهم‭ ‬ومشاهدة‭ ‬محبوبهم‭ ‬،‭ ‬فلا‭ ‬يزالون‭ ‬في‭ ‬حضانة‭ ‬الشيوخ‭ ‬وعيالهم‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬يكمل‭ ‬إيقانهم‭ ‬وترشد‭ ‬أحوالهم‭ ‬،‭ ‬فحينئذ‭ ‬يستقلون‭ ‬بأنفسهم‭ ‬،
وعلامة‭ ‬رشدهم‭ ‬أنهم‭ ‬يأخذون‭ ‬النصيب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬ينقص‭ ‬من‭ ‬حالهم‭ ‬شيء‭ ‬،‭ ‬يفهمون‭ ‬عن‭ ‬اللّه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬،‭ ‬ويعرفون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬،‭ ‬ويشربون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬،‭ ‬فإذا‭ ‬كانوا‭ ‬كذلك‭ ‬فقد‭ ‬استقلوا‭ ‬بأنفسهم‮ ‬،‭ ‬أي‭ ‬حل‭ ‬لهم‭ ‬الاكتمال‭ ‬الروحي‭.‬

فعلامة‭ ‬الرشد‭ ‬و‭ ‬بلوغ‭ ‬ارقى‭ ‬درجات‭ ‬الحكمة‭ ‬تأتي‭ ‬درجة‭ ‬فدرجة‭ ‬قال‭ ‬عز‭ ‬من‭ ‬قائل‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬غافر‭ ‬الآية‭ ‬15‭ ‬‮«‬رفيع‭ ‬الدرجات‭ ‬ذو‭ ‬العرش‮»‬،‭ ‬فما‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يرتقي‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المعاني‭ ‬الروحية‭ ‬الا‭ ‬أن‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬يحصل‭ ‬يقظة‭ ‬روحية‭ ‬من‭ ‬منام‭ ‬غفلته‭ ‬حتى‭ ‬تحصل‭ ‬ولادته‭ ‬الروحية‭ ‬فيفرح‭ ‬بازديانه‭ ‬روحيا‭ ‬مولانا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬و‭ ‬سلم‭ ‬و‭ ‬كأن‭ ‬عقيقة‭ ‬روحية‭ ‬آنذاك‭ ‬قيد‭ ‬الاحتفال‭ ‬لانه‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬الاسلام‭ ‬الى‭ ‬مقام‭ ‬الايمان‭ ‬لكنه‭ ‬حينئذ‭ ‬لا‭ ‬زال‭ ‬رضيعا‭ ‬روحيا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الايمان‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬رعاية‭ ‬من‭ ‬أولي‭ ‬الألباب‭ ‬يأخذوا‭ ‬بيده‭ ‬لان‭ ‬يبلغ‭ ‬درجة‭ ‬الرشد‭ ‬بالترقي‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬الوعي‭ ‬الايماني‭ ‬و‭ ‬تتسع‭ ‬دائرة‭ ‬نظره‭ ‬اتساعا‭ ‬يتجلى‭ ‬لعين‭ ‬قلبه‭ ‬قوس‭ ‬قزح‭ ‬ألوان‭ ‬درجات‭ ‬الوعي‭ ‬بين‭ ‬سحب‭ ‬تجليات‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬الروحية‭ ‬فتمطر‭ ‬رحمات‭ ‬الفيض‭ ‬الروحي‭ ‬فترى‭ ‬الودق‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬لتفلح‭ ‬أرض‭ ‬التوحيد‭ ‬و‭ ‬هي‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬مؤمن‭ ‬فلاحا‭ ‬مرادا‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬عز‭ ‬من‭ ‬قائل‭ ‬قد‭ ‬أفلح‭ ‬المؤمنون‮»‬‭ ‬بشرح‭ ‬الصدر‭ ‬انشراحا‭ ‬تفتح‭ ‬الزهرة‭ ‬يرعى‭ ‬من‭ ‬رحيق‭ ‬معانيها‭ ‬كل‭ ‬مؤمن‭.‬

الاله‭ ‬فوقنا،‭ ‬المحبوب‭ ‬فوقنا،‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬ذلك‭ ‬الفو‭ ‬قالا‭ ‬فوق‭ ‬مكانة‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬و‭ ‬الا‭ ‬فعرشه‭ ‬ملكه‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬مكوناته‭ ‬سار‭ ‬فينا‭ ‬حكمه‭ ‬عدل‭ ‬فينا‭ ‬قضاؤه،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬و‭ ‬زمان‭ ‬لكن‭ ‬المحبوبية‭ ‬التي‭ ‬يستحقها‭ ‬من‭ ‬قلوبنا‭ ‬محبوبية‭ ‬لدرجة‭ ‬العبادة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬المحبة‭ ‬فالمحبوب‭ ‬المعبود‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬فالمعبود‭ ‬المحبوب،‭ ‬لذلك‭ ‬يترقى‭ ‬الصالحون‭ ‬في‭ ‬مراتب‭ ‬الفهم‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬و‭ ‬درجات‭ ‬الوعي‭ ‬و‭ ‬الحكمة‭ ‬حتى‭ ‬تتضح‭ ‬الرؤية‭ ‬كما‭ ‬اتضحت‭ ‬لكل‭ ‬ذي‭ ‬بصيرة‭ ‬أو‭ ‬لمن‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬قلب‭ ‬أو‭ ‬سمع‭ ‬و‭ ‬هو‭ ‬شهيد‭.‬

فحواسنا‭ ‬مجرد‭ ‬مفاتيح‭ ‬لايقاظ‭ ‬الحواس‭ ‬المعنوية‭ ‬فاذا‭ ‬كانت‭ ‬ذواتنا‭ ‬الحسية‭ ‬لها‭ ‬جسد‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬و‭ ‬يدين‭ ‬و‭ ‬رجلين‭ ‬و‭ ‬صدر‭ ‬و‭ ‬عينين‭ ‬ة‭ ‬أذنين‭ ‬و‭ ‬أنف‭ ‬فكذلك‭ ‬لنا‭ ‬ذوات‭ ‬أخر‭ ‬بعضها‭ ‬فوق‭ ‬بعض‭ ‬كسموات‭ ‬داخلية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬فالنفس‭ ‬فالقرين‭ ‬والملك‭ ‬فالفؤاد‭ ‬فاللب‭ ….‬و‭ ‬هي‭ ‬السموات‭ ‬السبع‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬عروجها‭ ‬او‭ ‬تجاوزها‭ ‬للوصول‭ ‬للنفخة‭ ‬الالهية‭ ‬الغروسة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬انسان‭ ‬تعلم‭ ‬بها‭ ‬فطرة‭ ‬الاسماء‭ ‬كلها‭ ‬أي‭ ‬أسماء‭ ‬القيم‭ ‬المعنوية‭ ‬التي‭ ‬تقي‭ ‬الانسان‭ ‬الشرور‭ ‬في‭ ‬هاته‭ ‬الحياة‭ ‬فتبرمج‭ ‬بالنفخة‭ ‬الالهية‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬الخير‭ ‬و‭ ‬الشر‭ ‬و‭ ‬انما‭ ‬تأتي‭ ‬الاديان‭ ‬لتتمم‭ ‬مكارم‭ ‬الاخلاق‭.‬

فهذا‭ ‬يعقوب‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬اشتم‭ ‬قميص‭ ‬يوسف‭ ‬بأنفه‭ ‬الروحي‭ ‬لا‭ ‬بانفه‭ ‬الحسي‭ ‬و‭ ‬هذا‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ ‬رأى‭ ‬أثر‭ ‬الزنا‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬دال‭ ‬عليه‭ ‬بعيني‭ ‬بصيرته‭ ‬لا‭ ‬بعين‭ ‬بصره‭ ‬و‭ ‬كل‭ ‬مؤمن‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬المحجة‭ ‬البيضاء‭ ‬ليلها‭ ‬كنهارها‭ ‬برجلي‭ ‬العبادة‭ ‬و‭ ‬الصدقة‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬رجلي‭ ‬الصلاة‭ ‬و‭ ‬الزكاة‭ ‬لا‭ ‬برجليه‭ ‬الحسيين‭… ‬و‭ ‬هكذا‭.‬

خلاصة‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬المقتضب‭ ‬أن‭ ‬درج‭ ‬الحكمة‭ ‬هي‭ ‬مقامات‭ ‬الوعي‭ ‬الروحي‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬للمؤمن‭ ‬نوافذ‭ ‬الروحي‭ ‬لتلج‭ ‬انوار‭ ‬التوحيد‭ ‬الى‭ ‬القلب‭ ‬فتنير‭ ‬طريقه‭ ‬في‭ ‬عروجه‭ ‬في‭ ‬درجات‭ ‬الرفعة‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬أشار‭ ‬لها‭ ‬الحق‭ ‬و‭ ‬لها‭ ‬أشارا‭ ‬بقوله‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬خير‭ ‬ختام‮»‬‭ ‬رفيع‭ ‬الدراجات‭ ‬ذو‭ ‬العرش‮»‬‭ ‬غافر‭ ‬15‭.‬


مشاهدات 96
الكاتب  محمد غاني
أضيف 2024/12/02 - 5:58 PM
آخر تحديث 2024/12/04 - 5:11 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 421 الشهر 1721 الكلي 10057816
الوقت الآن
الأربعاء 2024/12/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير