الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الصنمية الدستورية في واقعنا

بواسطة azzaman

الصنمية الدستورية في واقعنا

سالم روضان الموسوي

 

ان مفهوم الصنمية كما يراه المختصون (بانه نوع من الآلهة الكاذبة، تتمتع بشيء من الإكراه والزجر على ضمائر النّاس، وتفرض عليهم أنماطاً معينةً من التفكير وأساليب العمل، فتحول بذلك دون حصول الناس على معرفة حقيقية وواقعية بالموضوعات الطبيعية والاجتماعية) نقلاً عن عالم الاجتماع المرحوم الدكتور عبدالجليل الطاهر في كتابه الموسوم (اصنام المجتمع ـ بحث في التحيز والتعصب والنفاق الاجتماعي ـ منشورات المركز الأكاديمي ـ العراق ـ تورينتوا كندا ـ طبعة بيروت عام 2016 ـ ص5)

ويضيف تفسيره لتلك الصنمية (نعني بالآلهة الكاذبة الأصنام التي ترتكز حولها الفكر المغلوطة، والمشوّهة، والمحرّفة التي يعتنقها الفرد بوعي أو من دون وعي للمواقع الاجتماعي)

ومن خلال الواقع السياسي والاجتماعي الذي نعيشه في الوقت الراهن، نجد ان الصنمية قد ظهرت مرة أخرى بعناوين متعددة، لكن الأخطر تلك التي جعل منها الدستور صنماً مقدساً من خلال توفير الحماية لها والارتقاء بها الى حد التقديس، ومنحها السلطة المتفردة التي لا يجب ان تناقش او تعارض  سواء بالأسلوب العلمي الاكاديمي او النقد البناء الذي وفر له الدستور اكثر من مادة لحمايته تحت عنوان الحق في حرية التعبير بل الزم الدولة بحمايته وكفالة ممارسته على وفق ما ورد في المادة (38) من الدستور التي جاء فيها (تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب: 1- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل . 2- حرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر. 3- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون).

صنمية الدسنور

لكن يقف هذا الحق عند حدود بعض المناصب التي جعل منها الدستور وجه من الصنمية الدستورية، مع ان الدستور في فلسفته عند تشكيل السلطات اعتمد على تعددها من اجل عدم حصرها في يد شخص أو جهة واحدة وتجسدت هذه الفلسفة في ديباجة الدستور التي تعد جزء لا يتجزأ منه والتي جاء فيها الاتي (نَحنُ شَعْب العراقِ الناهضِ تَوَّاً من كبْوَتهِ، والمتَطلعِّ بثقةٍ إلى مستقبلهِ من خِلالِ نِظاَمٍ جُمهورِيٍ اتحادي ديمقْراطيٍ تَعْددُّيٍ) ويرى فقه القانون الدستوري بان التعدد هو انقسام السلطة دون حصرها بجهة معينة، وانعكس ذلك على تكوين سلطات الدولة حيث تم تشكيلها من ثلاث سلطات مستقلة عن بعضها وهو ما يسمى بالفصل بين السلطات،

ومن هذا المنطلق فان الدستور قسم السلطات إلى ثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) وعلى وفق ما ورد في المادة (47) من الدستور التي جاء فيها الاتي (تتكون السلطات الاتحادية، من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات) ولم يجعل من أي منها ارتباط بسلطة اعلى من الأخرى، وإنما على قدر واحد وبالتساوي وتقدم أي منهما بروتوكولياً بموجب مهامها وسعة اختصاصاتها دون ان تكون لها ولاية أو وصاية على الأخرى،

اما على مستوى السلطة الواحدة فان الدستور جعل من قيادة تلك السلطة وتولى المناصب فيها يخضع لمبدأ التداول السلمي، حيث وردت كلمة (تداول) في الدستور العراقي ثلاث مرات الأولى في الديباجة التي بينت نهج الدستور تجاه السلطة وعلى وفق الاتي (َانْتِهَاجِ سُبُلِ التَداولِ السِلْمي لِلسُلْطَةِ)، كذلك في المادة (6) من الدستور عندما اكد مسار تولى السلطة عبر التداول وعلى وفق النص الاتي (يتم تداول السلطة سلمياً، عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور)

وهذا المنهج الدستوري الواضح والصريح في تعزيز مبدأ (التداول) يأتي لحماية العملية الديمقراطية من تفرد الأشخاص أو القوى والأحزاب من الهيمنة على السلطة والتحكم بمقدرات البلد والنكوص نحو الديكتاتورية، ومن ثم يظهر الصنم الذي يعيد السلوك الديكتاتوري في الحكم، لذلك لابد وان يكون التداول في كل السلطات على وفق النص الدستوري ولا يجوز حصر سلطة معينة بيد شخص او فريق معين ويبقى في موقعه إلى ابد الدهر، في الدستور العراقي كانت له عناية خاصة تجاه تداول السلطة في شقها التشريعي والتنفيذي لان تلك السلطتين بيدها القوة والهيمنة، فالسلطة التشريعية تشرع القوانين التي قد تكون أساس للدكتاتورية، أما السلطة التنفيذية تملك مقدرات القوة العسكرية،

الا ان هذه النصوص في التطبيق العملي نجد فيها تجسيد لتلك الصنمية تحت عنوان الاستقلالية والتقديس وتأويل النص الدستوري احياناً، ومنها تأويل تقديس حق المواطن وتحويل فهمه الى تقديس السلطة وجعلها فوق النقد والنقاش الهادف الى تطوير الأداء، وهذا المثال هو ما يسمى بالصنمية الدستورية،

ويرى عالم الاجتماع المرحوم الدكتور الطاهر بان هذه الصنمية قد لا تكون على شكل فرد بعينه حيث يقول (ليس من الضروري أن تكون الأصنام مصنوعة من الخشب أو الذهب أو الفضّة على صورة الإنسان، فالأمر المهم أنها ترمز إلى بعض من القيم الاجتماعية والقوى الرّوحيّة، التي تتصف بالقدسية، وتمتاز بالسلطة، يهابها الناس ويخشونها، تحاول أن تربط سير المجتمع وتكوينه الثقافي بإطار من الأوهام والأباطيل، وتعمل على طمس شخصية الفرد، وتمنع نموها وازدهارها، ولا تسمح لها بأن تشغل المكانة الاجتماعية اللائقة بها) وعلى وفق ما ورد في كتابه المنوه عنه (ص12)

ويضيف (بان هذه الصنمية تظهر في المجتمع الذي تهيمن عليه الديكتاتورية حيث لا يكون للفرد شأن يذكر، وقد ابتلعته السلطة، فاضطر الى الى عبادة وتقديس أنواع معينة من الاصنام من دون مناقشة او جدال) (ص13)

ويشير الطاهر الى ان هذه الاصنام في العادة بعضها من لم يستطع أن يشق طريق حياته في حقل اختصاصه، وأن يصبر ويثابر ليني مجده بيده، فرأى طريقاً قصيراً ممهداً لا يخسر فيه شيئاً. ما عدا الكرامة، وشرف الضمير، وبعض من القيم المعنوية. وهي أمور سهلة وهيّنةٌ يساوم عليها لنيل الجاه والمركز، ويثمن كرامته بالربح المادي، وبالحظوة والشهرة الفارغة الكاذبة (ص14)

واقع راهم

 وتعاظم سلطة هذه الصنمية في الواقع الراهن جعل من مبدأ الفصل بين السلطات وسيلة للتناحر بدلا من التعاون والتكامل بين تلك السلطات، والذي أدى بدوره الى وجود اصنام متعددة في السلطات الأخرى واحياناً تتعدد هذه الاصنام في السلطة الواحدة، ويقول الدكتور الطاهر (ان هذه الاصنام تتوحد في غاية واحدة إبقاء الجماهير ساذجة وعمياء تدين بالولاء والطاعة لتلك الاصنام) (ص14)

لكن دوام الانسجام بين تلك الاصنام لابد وان ينتهي الى صراع وتناحر ينعكس بشكل سلبي على الامن الاجتماعي، ولاحظنا ذلك في الواقع الراهن، مثلما شخصه الدكتور الطاهر، حيث يقول 

(كما أنّ الأفراد يصنّفون أنفسهم وفق نظام متدرج من الرتب الاجتماعية، ومن المسؤوليات والامتيازات فإنّ الأصنام يستجيب بعضها لبعض في عمليات قسريّة من التنافس والتنازع، والتوافق، فيخضع بعضها لبعض حتى يتغلب أكثرها قوّةً ونفوذاً، فتسود مدة من التهادن والتوافق المؤقت الطارئ، الذي لا يلبث أن يزول حتى يظهر النزاع ثانية) (ص16)

ويكمن سبب تغول هذه الاصنام وهيمنتها على المشهد كما يراها الدكتور الطاهر بسبب تكميم الافواه وتقييد حرية التعبير بأساليب القانون ذاته الذي يمنح حق التعبير، فيقول (لا يمكن أن يتكوّن صنم اجتماعي عن طريق حرية الرأي والتعبير، والمناقشة، والجدل والإقناع والاعتقاد وإنّما باستعمال القوة، والزجر، والدعاية والتزكية والسلوك الرّعاعي، فحين تستجيب الجماهير للصنم فإنّها تنقاد باللاشعور، كما لو كانت منوّمة تنويماً مغناطيسياً) (ص17)

ومن خلال ما تقدم فان الصنمية الدستورية توفرت في واقعنا الراهن بعدما كان المجتمع يتطلع الى ممارسة العمل الديمقراطي والتخلص من براثن الديكتاتورية، وترسخت هذه الصنمية من خلال تسلق البعض لسلم المناصب مستغلاً الظروف التي مر بها المجتمع، سواء كانت بفعل الإرهاب والاعداء او بفعل هؤلاء الاصنام في افتعال الازمات المجتمعية، وهذا يقودنا الى التفكير في كيفية تعديل النصوص الدستورية التي رسخت هذه الصنمية، ومن ثم تفكيك منظومة الفساد المتخادمة مع بعضها ، لان التاريخ له حتمية لايمكن تجاوزها تتمثل في افول نجم هذه الاصنام حتى لو اتحدت لان لابد وان يكون لباقي الاصنام ان تنتقم من الصنم الأقوى المهيمن على المشهد .

 قاضٍ متقاعد


مشاهدات 36
الكاتب سالم روضان الموسوي
أضيف 2024/11/23 - 1:38 AM
آخر تحديث 2024/11/23 - 5:41 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 108 الشهر 9579 الكلي 10052723
الوقت الآن
السبت 2024/11/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير