الشرق في عيون الغرب
ضرغام الدباغ
بين الشرق والغرب: هناك حروب ومنافسات، نعم، ولكن أيضاً مواجهات إنسانية، وتبادل ثقافي وتجاري ومعرفي وهو الأهم ...! مما قد لا يتسع له دفتي كتاب واحد مهما بلغت سماكة هذا الكتاب ومهما بذل فيه صاحبه من جهد .
ترى هل هو مستحيل عمل كهذا ..؟
كلا ... لا يوجد مستحيل في عالم البحث والعلم. ولكن الأمر بتقديري أكبر من أن يستطيع فرد واحد مهما بلغ علو كعبه في العلم والمعرفة، إتمامه بطريقة لا عيب فيها ولا خطل. والأمر هنا لا يتعلق بكفاءة أي باحث أو عالم، بل هو ضرب من عمل موسوعي يساهم فيه التيولوجي والفيزيائي والكميائي والفنان والعسكري وعلماء الآثار واللسانيات والأطباء والمهندسين والإنسانيين من علماء اقتصاد وسياسة، وربما غيرهم على التعدد الواسع لأنشطة الحياة والفكر الذي دار لعشرات القرون، منذ عصور ما قبل الميلاد وإلى حد الآن بين الغرب والشرق. ليست مصادفة أن تنشر عالمة ألمانية هي زيغريد هونكة، Sigrid Hunke كتاباً أشتهر في الشرق والغرب على السواء، ترجم إلى العربية بعنوان: شمس العرب تسطع على الغرب: وعنوانه الأصلي باللغة الألمانية: Allahs Sonne über dem Anbendland ، كتاب يقع في حوالي الأربعمائة صفحة الذي طبع في ألمانيا عدة طبعات وذاع صيته في الشرق كما في الغرب.
ما هو الغرب وما هو الشرق..؟
منذ العصور القديمة أصطلح على تسمية البلدان التي تقع في مشرق الشمس، شرقاً، وإلى الغرب منها غرباً. على أن تحديدات جغرافية طبوغرافية ساهمت وفي وضع مثل هذه الحدود. حيث اعتبر البحر الأبيض المتوسط الفاصل بين أوربا وأفريقيا حداً طبيعياً ومضيق البسفور وجبال الأورال التي تقسم روسيا الفسيحة المترامية الأطراف إلى شرقية وغربية، وذلك في عصر لم تكن فيه الأطالس قد وضعت وحدود القارات قد رسمت.
الشرق موطن الحكمة، الشرق موطن المعرفة الأولى، الشرق علم العالم الحرف والرقم والدولاب، حتى قيل في أوربا: أن كل معرفة يعود جذرها إلى الشرق.
وإذا كان رصد كل هذه النشاطات لباحث واحد عملاً أشبه بالمستحيل، فلنقم إذن بتجميع كل مباحثنا بهذا الصدد وبتراكم جهود باحثين ومحققين من كل أقطارنا نكون قد أسسنا بداية لعمل كبير يبدأ بخطوة ...
وهذا العمل هو مجموعة من البحوث والمقالات البعض منها مترجم والآخر كنا قد نشرناه في دوريات تخصصية، أو مواقع تعني بالبحث والتقصي. وقد آثرنا عدم التدخل في البحوث التي قمنا بترجمتها، رغم ملاحظاتنا الشخصية على بعض ما ورد فيها، فالأساس في فكرة هذا الكتاب هو معرفة رؤية كتاب الغرب وأحكامهم على التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية لأقطارنا العربية. إن معرفة فحوى وحيثيات تلك الرؤية مسألة كبيرة ليس بوسع هذا الكتاب تغطيته، ولا بد من باحثين آخرين أن يدلوا بدلوهم في هذا الجب العميق.
إنني أعتقد أن جهداً ينبغي أن يبذل من العلماء والكتاب في الشرق والغرب على حد السواء، جهد يظهر عمق الصلات الثقافية والإنسانية بين الشرق والغرب، جهد قامت عليه الحضارات في العالم أجمع، فلا أحد بوسعه أن يقيم إحصاءاً عن الزيجات المختلطة، عن مجتمعات تهوى التقارب، عن شعوب تريد أن تعبر عن إرادتها في التقارب والمحبة لا العداء والنفور والكراهية.
ولتكن هذه الخطوة إضافة لجهد الآخرين ... وجهد يتطلع لجهود آخرين
دعونا نحفر قنوات الحب .. ليصاب دعاة البغضاء باليأس
الشرق في عيون الغرب
ليس من السهل رصد أولى العلاقات بين الشرق والغرب، فالبشر مطبوع على التجول والتنقل، وفي ذلك ينسج علاقته، الإنسانية قبل كل شيء، ثم الاقتصادية والثقافية، وأخيراً، وأخيراً يؤطرها في أعلى مراحل هذه العلاقات رقياً، ضمن علاقات سياسية. وقد تأخذ في مراحلها المتقدمة، نمط معاهدات واتفاقيات كثمرة لعلاقات دبلوماسية يتوصل فيها مثلوا الأطراف إلى تحقيق المصالح بالوسائل السلمية.
ومن المؤكد أن تلك العلاقات كانت قد ابتدأت في فجر التاريخ قبل العصور الميلادية بزمن بعيد. إلا أنه من المعلوم أن الشرق كان قد سبق الغرب على صعيد الحياة الجمعية بتشييد أولى التجمعات والمدن، فقد بدأت هذه العملية في وادي الرافدين (4 آلاف سنة ق.م) على يد السومريين، وفي أزمنة متقاربة في وادي النيل (2850 ق.م) شيدت أولى المدن في التاريخ المعروف وتم اتحاد بعض المدن القريبة من بعضها بما أطلق عليه دول المدن city states والتي اشتهرت في التاريخ بهذا الاسم بوصفها أولى التجمعات البشرية التي أقامت دولا على أساس القانون. وأسست مجالس تشريعية (مجلس الشباب ومجلس الشيوخ) ونظما سياسية انطوت في جوهر الأمر على تحالف بين سلطة المعبد وسلطة الملك (القصر)، وهذه الخطوة الكبيرة تمثل في فجر التاريخ فتحا حضاريا هائلا. وكانت المدن تشتمل على أبنية فخمة كالمعابد والقصور الملكية والمدارس. ثم أعقبتها مرحلة اتحدت فيها دول المدن، أطلق عليها مرحلة عصر السلالات Dynasty states ، تشكلت بعدها إمبراطوريات كبيرة: الأكدية 2325 ق.م ، البابلية الأولى 2000 ق.م، الآشورية 1800 ق.م بابل الثانية 626 – 537 ق.م.
حل مشكلات
لم تكن تلك التطورات سوى استجابة للتراكم في التطور التاريخي للتجمع الإنساني القائم على تطور أساليب وأدوات الإنتاج، وتطور فهم الإنسان لمحيطه ثم توصله إلى حل مشكلاته السياسية والاقتصادية، مما قاد كمحصلة إلى نظريات السياسة والحكم كذلك حققت إنجازات رائعة على أصعدة الثقافة، القانون، الآداب والعلوم.
وعندما شيد الإغريق أولى مدنهم (البوليسات) 600 – 480 ق.م، كانت بلاد الرافدين قد تعرفت على نظام المدارس في تعميم العلوم والمعارف وبناء السدود وقنوات وأنظمة ري متقدمة (قناة سنحاريب المعلقة في نينوى) ورفع المياه من الأنهار وبناء القصور الباذخة والقلاع والمعابد العملاقة (الزقورات في العراق- الأهرام في مصر)، وقد ازدهرت الزراعة بسبب أنظمة الري المتقدمة ووفرة المياه وتراكم التجربة، وكذلك تربية الماشية. كما شهدت المدن افتتاح ورش لحل مشاكل الحياة اليومية وتوفير أدوات الإنتاج. وكان استخلاص المعادن من الطبيعة: الذهب، النحاس، الحديد، قد وفر إمكانية صناعة الأسلحة وأدوات الزراعة وكذلك صناعة الأقمشة من الأصواف والكتان. كما كان شيد الإنسان أيضا في وادي الرافدين المراصد الفلكية ووضع جداول حركة النجوم وأشهرها كان في مدينة بابل ذات السمعة العالمية آنذاك. وكانت هناك مكتبات ضخمة منها مكتبة الملك الآشوري الشهيرة التي احتوت على آلاف الأعمال العلمية والفنية والأدبية.ثم توج هذا التقدم الحضاري بأبجدية أوغاريت التي اقتبس منها الإغريق أحرف الكتابة، وغيرها كثير من المنجزات الثقافية والعلمية. وكانت تلك المنجزات هي التي جذبت طلاب العلم والفلسفة والرحالة ومؤرخين مثل هيرودوت إلى بابل، مركز العلم والثقافة.
ومع نشاط الحركة التجارية وانتقال السلع والبضائع، كان من البديهي أن يصاحب ذلك انتقال الأفراد الأفكار. ولدينا الكثير من المصادر التي تشير إلى مثل هذه النشاطات، وبالطبع فإن رحلة هيرودوت وكتابته عنها أهمها وأكثرها دقة، ولكن هناك أيضا مصادر تشير إلى الرحلات التجارية، ومنها البحرية التي وصلت إلى بحر العرب الذي أطلق عليه اسم البحر الأريتيري، وفلاسفة أغريق ذهبوا إلى بابل وتعرفوا على الأنشطة العلمية والفلسفية فيها.
فرحلة هيرودوت التي استغرقت بضع سنين إلى العراق ومصر وفينيقيا عام 484 ق.م عاد بعدها إلى بلاده ووضع مؤلفات عن مشاهداته في بلاد الشرق التي كانت بلاد حكمة ونور، كما شهدت تلك المرحلة رحلات بحرية، حيث كانت السلع والبضائع والأفكار تتحرك دون أن تحدها حدود. وكان التجار يتقنون إدارة مصالحهم على أساس المقايضة التي كانت سائدة بدلا من النقود في آليات وجدت طريقها في التعامل، وقد وجدت آثار تجار من الشرق وبلاد الرافدين في شرق أوربا.
بل وحتى في تخوم بحر البلطيق، مما يدل على حجم مدهش لتبادل تجاري واسع النطاق شمل ربما حتى البلدان الاسكندنافية.
ولكن لابد من الإشارة إلى أن تلك الحركة من التبادل التجاري، الثقافي والعلمي شهدت تناميا متزايدا منذ حملات الاسكندر الكبير في زحفه على بلدان الشرق إذ جاء الغرب إلى الشرق بجيوشه، فأنهى الاسكندر الحكم البابلي والفرعوني وأقام نظاما عرف بإمبراطورية الاسكندر. فالقادم المحتل يحاول دائما أن يفرض أنماط الحياة السائدة في البلاد التي أتى منها، وكذلك فلسفة الإدارة والحكم والمجال الثقافي بالطبع. ومن جملة ما شملته الثقافة في معطيات ذلك العصر، طراز العمارة والفنون والموسيقى والمسرح، وإلى حد ما الأطعمة والملابس، والاقتباسات من كلتا الحضارتين تأثرت بالموروث المتجذر في تلك المجتمعات القديمة، وكذلك بالطقس والمزاج والمستوى الذهني وغير ذلك من المعطيات.
أطلق المؤرخون والباحثون على هذا الامتداد والتفاعل الثقافي والحضاري تسمية المرحلة الهيلينية نسبة إلى الدولة الإغريقية الهيلينية. الإغريق جاءوا إلى بلاد كانت متقدمة عليهم بأشواط بعيدة في حيازة المعارف والثقافة والفنون. وكان سقوط أنظمة الحكم المحلية نتيجة لشيخوخة الإمبراطوريات الآشورية والبابلية وتظافر عوامل ذاتية وموضوعية عجلت في نهايتها.
الإغريق و الاسكندر الكبير كانوا أول من أدرك هذه الحقائق فطرحوا فكرة تفاعل الحضارتين الشرقية والهيلينية. ومن البديهي أن الحضارة الشرقية كانت تتركز في وادي الرافدين ووادي النيل، وبالفعل فقد ظهرت تأثيرات الحضارة الهيلينية على ملامح وسمات تدركها عين الفاحص، ولكن الإغريق نقلوا بدورهم منجزات حضارية و معمارية من مصر والعراق وبلاد الشام منها فقرات هامة ومؤشرات في فن عمارة الأعمدة وتيجانها والأقواس و العقود وصناعة الأثاث والمؤثرات الطوطمية، وكان ذلك على الرغم من أنه كان حصيلة لاحتلال وسيطرة جيوش، إلا أن التفاعلات الحضارية كانت تدور بصورة مباشرة وغير مباشرة نتيجة لهذا اللقاء القريب، بل التماس المباشر بين حضارة الشرق والإغريق.
بعد وفاة الاسكندر الكبير وتقاسم إمبراطوريته الواسعة بين قادته: سلوقس في الشرق، بطليموس في مصر، أنتيغونس في أوربا وتنازع القادة فيما بينهم أدي إلى ما يسمى بدول الديادوشين Diadochen ، دول خلفاء الأسكندر. حيث كان نجم الإمبراطورية الرومانية يبزغ ويتصاعد إلى قوة عظمى، ما لبثت أن سقطت مواقع الإغريق تدريجيا واحتلتها بعد أن كانت قد احتلت بلاد الإغريق نفسها، وبذلك انتقل الموقع القيادي في الغرب إلى روما وانتهت صفحة الحضارة الهيلينية في المشرق وضعف إشعاعها بعد أن أصبحت تلك الإمبراطورية العظيمة مجرد مقاطعة رومانية.
جاء المحتلون ومعهم منجزاتهم التي كانت نتيجة لامتزاج معطياتهم مع الإرث الإغريقي ليتفاعل كل ذلك مع معطيات ومنجزات الشرق. وكان الرومان حتى ذلك الوقت وثنيين فيما كانت شعوب المنطقة قد تعرفت على المسيحية وكانت الأديرة والكنائس نقاط إشعاع ثقافية مهمة، وكان لقاء الحضارات والثقافات التي تمور بها بلاد الشرق مع الرومان تفاعلا مهما: العربية، المسيحية، الفارسية، الهندية التي تأثرت وأثرت في بعضها البعض، وقد استطاعت هذه الحضارات الحفاظ على جوهرها بنسب متفاوتة، ولكن هذا التفاعل قد أينعت ثماره، بل أثمرت.
ومن المؤشرات على ذلك، تلقي الغرب المسيحية من الشرق، حيث مضى دعاة المسيحية الأوائل في القرون الميلادية الأولى إلى اليونان وإيطاليا هربا من اضطهاد اليهود بعد صلب السيد المسيح، الذين كانوا قد أصبحوا أعوانا للمحتلين الرومان. وقد تمكن دعاة المسيحية من ترسيخ أسس الديانة المسيحية في اليونان وإيطاليا برغم الاضطهاد الذي لاقوه. وكانت المسيحية تحمل عبق الشرق، وما أن لبثت أن أصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية 350 م وكان الغرب في حاجة إلى حكمة الشرق وأصالته. وفي غضون عملية التفاعل العميقة هذه، كانت حضارة الشرق تكتسب ألوانا جديدة لاسيما في العمارة والمسرح والقوانين الرومانية و القوانين التجارية لتضيف إلى التشريع القانوني الشرقي القديم الذي يعود بجذوره إلى بابل وحمورابي العظيم.
في 610 م وببزوغ فجر الإسلام، بدأت مرحلة تاريخية جديدة وفرت الشروط الموضوعية لانعطاف هائل في تاريخ العرب والمنطقة بأجمعها. فالإسلام إلى جانب التوحيد وإمكانية التوجه إلى الخالق دون وساطة من كهنة المعابد الذين مثلوا طبقة طفيلية في المجتمعات، كان يمثل نوعا من الفلسفة الاستكمالية، أي أن الحاضر جيد ولكنه يصبح أفضل بسعي الإنسان. الإسلام كان زاخرا بقواعد وقيم وقوانين اجتماعية وسياسية واقتصادية، ومضى الإسلام يشع حضارة وقوة، شرقا وغربا. وبعد أقل من 20 عام على بزوغ فجره كانت الإرادة العربية الإسلامية قد أنهت الوجود الأجنبي في المشرق المتمثل بالإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وأضحت الحضارتين الهيلينية والرومانية روافد تصب في المجرى الحضاري العام، لكن دون أن تغيره جوهريا.
الشرق في عيون الغرب / 2
ليس بوسع أحد أن يجزم بصفة مطلقة، متى جاء الشرقيين، عرباَ كانوا أو مسلمين أو غيرهم إلى أوربا وبأي وسائل ومن أي طرق. فبين أيدينا دلائل ومصادر موثوقة تشير إلى أن تلك الصلات والعلاقات كانت قد ابتدأت منذ أزمنة غابرة بعيدة، ولكن لدينا ما يجعلنا نؤكد أن تلك الصلات كانت منتظمة لقرون عديدة قبل الميلاد، فقد وجدت آثار مؤكدة لتجار من شبه الجزيرة العربية في مناطق بحر إيجة، آسيا الصغرى، بلاد الإغريق والبلقان (شرقي أوروبا) آثاراَ لتجار من شبه الجزيرة العربية في جزيرة ديلوس Delos . كما أن كاتبان من اليونان القديمة هما: أريستوفانس Aristo phanes وأوريبيدس Euripides ذكرا في أعمال لهما، أنباء عن تجار من بلاد سبأ ( في شبه الجزيرة العربية )، كانوا قد وصلوا إلى تلك الأرجاء، وقاموا بفعاليات تجارية هناك. وكان ذلك قد حدث في القرن الخامس قبل الميلاد.
وإذا كان تعقب تلك الصلات كمن يلاحق ظله،عملاَ يقارب المستحيل، ويتطلب جهوداَ ومساحات أوسع مما يوفره مجال بحثنا هذا، فأننا سوف نركز على اثنتين من نقاط التماس والاتصال المهمة والتي كان لهما نتائج وآثار مهمة وان تركيزنا على هاتين النقطتين ليس إلا لسببين رئيسيين: ـ
الأول: أن تلك الاتصالات استغرقت مراحل طويلة( نسبياَ ). الأندلس: سبعة قرون وجزيرة صقلية: ثلاثة قرون تقريباً من الوجود المباشر وقروناَ من التماس غير المباشر.
الثاني: الأهمية البالغة للنتائج والآثار الثقافية والعلمية والسياسية الهامة، التي نجمت عن هذا التماس.
ومن المهم في هذا المجال التأكيد على القول، أن التماس كان ينطوي على إشعاع ثقافي وحضاري هام. وأعني هنا: نقطتي التماس: الأندلس وصقلية.
الأندلس: ـ
كان الرومان قد بسطوا هيمنتهم على شبه الجزيرة الايبرية (أسبانيا والبرتغال اليوم) عام 134 قبل الميلاد، ثم زحفت قبائل البرابرة عبر البحر المتوسط من شمال أفريقيا في أوائل القرن الخامس الميلادي. وفي أوائل هذا القرن (الخامس) أرغمت قبائل اللان، قبائل الوندال، أرغمتها على الجلاء من شبه الجزيرة الايبرية، التي تعزلها عن فرنسا سلسلة جبال البيرنيه المنيعة Pyreanen، ثم تأثر الغوط الغربيين بعد دخولهم المسيحية بالمذهب الايوسي. وفي عام 587 تركوا هذا المذهب ومالوا إلى الكاثوليكية.
ولكن الأحداث مضت دامية في المجتمع الايبري، فالصراعات الاجتماعية والمذهبية كانت تدور بعنف مدمر. ويقَيم البروما، الأستاذ المعاصر في جامعة مدريد أحداث تلك الحقبة قائلاَ:
“ في غضون السنوات الأخيرة، كانت البلاد، أيبريا الغوطية، تجتاز فترة من الفوضى والانحطاط والفاقة. والانحطاط الاجتماعي والتعسف طبقي وإهمال للأعمال الزراعية. أمة تضيف الخلافات الدينية والاضطهاد والتغريبات والمصادرات والتقلبات مستمرة في الجهاز السياسي من متاعبها، فتضعها على شفا الحرب الأهلية: تلك كانت العوامل الطبيعية للأحداث اللاحقة “. ومصداقاَ لما ذهب إليه البروفيسور البروما، فقد كان المجتمع الايبري لا يعرف إلا طبقتان اثنان فقط:
أقليه من النبلاء ورجال الكنيسة وكبار الموظفين.
أغلبية من الاقنان .
كان أمراء الإقطاع يسومون الرعية سوء العذاب والاستغلال، كما كان هناك تنافس وصراعات بين قادة الكنيسة، واضطهاد وإرهاب يعاني منه اليهود. وفيما كانت أيبريا تشهد هذه الأحداث والاضطرابات، كان الشمال الإفريقي يتقدم ويزدهر ويحقق المنجزات السياسية والاجتماعية، والثقافية بوجه خاص .
كانت أيبريا تحت حكم الغوط منذ قرنين فقط. منذ القرن الخامس، وكانت هذه الأجواء تخلق مناخاَ فريداَ من نوعه، فقد أستقر رأي عدد من زعماء الغوط ، منهم يوليان، وكان حاكماَ لإحدى الولايات والذي قام بمراسلة القائد العربي في شمال أفريقيا، موسى بن نصير وقدم إليه الدعاة والسفن لاجتياز المضيق والنزول على البر الايبري .
ولم يرغم العرب المسلمون عندما استقروا في شبه الجزيرة الايبرية السكان على الدخول في الإسلام، بل على العكس، فقد أصبح منهم وزراء ومستشارين وقادة إداريين وتداخلت عائلات مسلمة ومسيحية بالزواج. وقد فعل ذلك ملوك العرب والمسلمين.
بيد أن لوجود العرب والمسلمين في الأندلس كان له أبعاده الثقافية والفنية والاقتصادية بدرجة رئيسية، فقد نقلوا إلى الأندلس الكثير من أصناف المزروعات والأشجار، وكذلك صناعة الورق (وكان العرب قد نقلوه من الصين)، والنسيج والصناعات الجلدية. وما زالت اللغة الفرنسية تضم مصطلح Corodonnerie ، إشارة إلى صناعة الأحذية في قرطبة. وعلى صعيد الثقافة، كانت الصلات مفتوحة على كافة الاتجاهات. وإذا كان رصدها جميعاَ تفوق مهمة يحثنا هذا، لكن يجدر الإشارة بصفة خاصة إلى الأعداد الكبيرة من العلماء الأوربيين الذين كانوا في القرون الوسطى قد جاءوا لدراسة وتعلم العربية مثل : ـ آدلارد فون باث Adelard von Bath المتوفى عام 1180 وميخائيل سكوت Michal Scott المتوفى عام 1235 ، وكان هؤلاء قد جاءوا للدراسة في جامعات الأندلس. كما كانت هناك مدرسة للترجمة مختصة بنقل مختلف العلوم إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر وكان يديرها المترجم دومنيكو لوديسالفو Domingo loudisalvo .
وكانت مكانة الفكر والفلسفة، والعلوم بصفة عامة، كبيرة في الحياة الاجتماعية والسياسية في الأندلس، فكانت مكتبة عبد الرحمن الثالث خليفة الأندلس، تضم 400,000 ألف مجلد وكانت فهارسها تقع في 44 مجلد تشمل مختلف العلوم. أما الحياة الأدبية فقد كانت ذروة من السمو في نقل الصورة وتقنياتها.
أما على صعيد الفلسفة، فقد امتدت أهمية علماء الفلسفة والسياسة والاجتماع والتأريخ، إلى ما هو أبعد من الأندلس المغرب والمشرق العربي، إلى أوروبا والعالم بأسره علماء ومفكرين من أمثال: أبن رشد وأبن خلدون والطرطوشي وأبن الأزرق وعلماء في الطب وعلم الأدوية (الصيدلة) مازالت أبحاثهم تثير الاهتمام والدراسة في الجامعات العالمية.
ففد اعتبرت على سبيل المثال، فلسفة أبن رشد هامة للغاية في إنضاج الظروف والمقدمات لعصر النهضة والتنوير أقتبس منها الأوربيون الكثير من أجل الرد على أطروحات السكولاستيون (تأسست السكولاستية Scholatism في القرن الحادي عشر للملائمة بين الدين والفلسفة) واستعان بها فلاسفة عصر النهضة من أجل الرد على السكولاستيين لا سيما أفكار الراهب الفيلسوف توما الأكويني 1225 - 1274 Thomas Aquinie.
وقد أسس العلماء والفلاسفة الايطاليون الرشديون في ظروف عصر النهضة جامعة بادوفا Paduva في إطار النزاع بين الأرسطوطاليسيين التي كان أبن رشد أفضل شارح ومقدم لها، وبين الافلاطونيين الذين قاد تجمعهم العالم اليوناني الأصل بليتون Plethon (المتوفى عام1490 ).
وأسس الأفلاطونيون مدرسة في مدينة إيطالية أخرى وكان لهذا الصراع الفلسفي آثره الإيجابية على التطور العام للفلسفة، وصفة خاصة للفكر الفلسفي السياسي. ولكن إلى جانب فلسفة أبن رشد ويطلقون عليه باللاتينية Averroes ، كان هناك الكثير من المنجزات في مجالات العلوم الصرفه، كالطب وعلم الدواء والرياضيات. ويمكن القول بموضوعية تامة، أن مساهمة الثقافة والعلوم العربية، والمنجزات الحضارية بصفة عامه التي كانت تشع من هاتين البؤرتين، الأندلس وصقلية وفرنسا إلى حد ما، بالطبع إلى جانب وسائط أخرى، الدور العام في عصر النهضة، واستمرت مصادر الطب والصيدلة العربية أساسية في الجامعات الأوربية حتى عصر النهضة أو بعدها.
صقلية : ـ
كانت جزيرة صقلية تابعة للدولة البيزنطية، وكانت السفن العربية تتخذ منها محطة في إطار فعالياتها التجارية، وكان الاغالبة، وهم أسرة عربية أسسها إبراهيم بن الغالب كان عاملاَ للدولة العباسية على مصر ومقاطعات شمال أفريقيا ثم أسس أمارة تتمتع بالكثير من الحرية والاستقلال عن بغداد عاصمة الخلافة العباسية وأسس أسطولاَ حربياَ وتجارياَ ضخماَ من أجل الدفاع والحفاظ على الأمارة / الدولة ومصالحها أعتبر أحد القوى الرئيسية في البحر المتوسط وكانت صقلية المنطلق للكثير من الهجمات التي كانت توجه صوب إمارته وتهديداَ لتجارة الأمارة.
لهذه الأسباب قام الاغالبة باحتلال باليرمو (عاصمة صقلية )، وفي عام 843 ميسينا، وفي عام 878 سيراكوز، وفي عام 902 تورمينا. وتقع جميع هذه المدن في جزيرة صقليه . وحتى منتصف القرن الحادي عشر استمرت الجزيرة تحت إدارة الأغالبة العرب وتؤكد المصادر الأوربية، أن هذا الوجود العربي كان مهماَ في نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى أوروبا.
ثم أن الأغالبة توجهوا نحو أراض في شبه جزيرة أبنينو (إيطاليا)، ففي عام 840 احتلوا تارت وفي عام 814 مدينة باري، وفي أعوام 849 – 846 هاجم الجيش العربي روما وحاصرها لكن دون تحقيق النجاح. ثم نظم البيزنطيون حملات مضادة بقيادة الملك لودفيغ الثاني، وفي عام 880 تمكن البيزنطيون من إخراج العرب من إيطاليا .
ولكن هذا التماس وبقدر كان أنطوي الحروب ومشاهد القتال، كان ينطوي على لمحات ثقافية وحضارية كما أسلفنا، فمن هنا، من صقلية تعرف الأوربيون لأول مرة على خارطة العالم التي كان قد أعدها الجغرافي العربي الأدريسي وكذلك على الكثير من فنون الصناعات الزجاجية والأصناف الفاخرة من الأقمشة. ومنجزات ثقافية وحضارية عديدة.
وقد أستمر العرب ذو حظوة ونفوذ علمي وثقافي في بلاطات الملوك والقياصرة، بعد نهاية حكمهم في صقلية، فكانوا معلمين ومستشارين وأفضل الجنود. فقد كان القيصر الألماني فريدريك الثاني ( توفي عام 1250 )، يجيد اللغة العربية كأحد أبنائها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث : ـ
* أدهم، علي: صقر قريش، بيروت / 1974
* الدباغ، د. ضرغام: الفكر والنظام السياسي في عهود الخلافة العربية الإسلامية بغداد / 2005
* تشردوم، البروما: حرية العقيدة في أسبانيا الإسلامية، مقال في مجلة آفاق عربية، بغداد ـ العدد 1979 / 1
* كرم، يوسف: تاريخ الفلسفة الحديثة، القاهرة /1957
* Autorenkollektiv : Geschichte der Araber Teil 1 Leipzig 1971
* Autorenkellektiv: Gesschichte der Araber Teil 1, Berlin 1975
* Autorenkollektive: Weltgeschichte, Teil 1, Leipzig 1981
Brentjes, Bernhard: Vom Stamm zum Staat, Leipzig 1983 *
Eisele, Petra: Babylon, Berlin *