هل يجب على أيران أن ترد عسكرياً؟ وهل (أسرائيل)ضعيفة كما تبدو؟
منقذ داغر
« عليك أن تبدو ضعيفاً حينما تكون قوياً،وتبدوا قوياً حينما تكون ضعيفاً « صن تسو،فن الحرب
أنشغل العالم والمحللون،وأنا منهم،بتحليل أسباب ضعف الهجوم الأسرائيلي على أيران فجر السبت 26 أكتوبر. وتكاد تجمع كل التحليلات على نجاح الأدارة الأمريكية في الضغط على أسرائيل للحد من سعة وآثار هجومها الأنتقامي لتجنب رد أيراني قوي ومن ثم أحتمال أندلاع حرب أقليمية تتورط فيها أمريكا،وتقفز بسببها أسعار النفط كثيراً مما سينهي آمال الديموقراطيين بالبقاء في البيت الأبيض. لكن معظم التحليلات أغفلت بعدَين مهمين:الأول هو الصورة الأكبر لذلك الهجوم،والثاني هو رد الفعل الأيراني وما يمكن أن يحدث في اليوم التالي. سأبدأ بتحليل البعد الأستراتيجي للهجوم الأسرائيلي الذي يخطىء من يضعه بمعزل عن العدوان على لبنان وغزة. ان مبدأ وحدة الساحات بات هو الحاكم للأستراتيجية الأسرائيلية على ما يبدو. فالصورة الكلية للصراع تدل بوضوح أن أسرائيل باتت تتعامل مع ما تعتبره عدو وجودي موحد له أطراف ممتدة من اليمن للبنان عبر العراق وسوريا،لكن رأسه المفكر يكمن في طهران. لذا يجب تحليل الضربة الأسرائيلية ضمن هذا المنظور. لقد بدا العدو الصهيوني ضعيفاً في رده،فهل كان فعلاً كذلك؟
أن من يرصد العمليات العسكرية الأسرائيلية منذ بدايتها في غزة ثم أمتدادها للبنان، بعين خبيرة،يفهم أن هناك أستراتيجية شاملة Grand Strategy تحكم كل الأبعاد العملياتية ومنها هجوم فجر السبت الماضي على أيران. فسواء في غزة أو في لبنان،يلاحظ أن العدو الصهيوني بدأ كل عملياته بما يسمى باللغة العسكرية بعمليات التجريد العميق Deep Strike Operations . يقصد بعمليات التجريد العميق تدمير أو تعطيل قدرات القيادة والاتصالات للعدو وشل قدرته على أدارة عمليات عسكرية فعالة. هذه العمليات تستهدف البنية التحتية الحيوية، مثل مراكز القيادة، وشبكات الاتصالات، وخطوط الإمداد، بهدف إضعاف قدرة العدو على التنسيق والرد بفاعلية. تعد حملة الهجوم الجوي والعمليات الخاصة التي قامت بها أمريكا في ما سمي بعاصفة الصحراء ضد الجيش العراقي في بداية 1991 أوضح مثل في العصر الحديث على هذه الأستراتيجية. فقد أستمرت عمليات التجريد الأستراتيجي للقوة العراقية طوال شهر كامل تقريباً وأستهدفت تدمير كل منظومات القيادة والسيطرة والأتصالات والتنقل ومخازن السلاح والعتاد والصواريخ ومنشآت تصنيعها. هذا فضلاً عن أستهدافها النفسي الكبير والمدمر للمقاتلين والجبهة الداخلية. لذا فعندما بدأت القوات الأمريكية الأرضية حركتها فعلاً لم يستغرق منها الأمر أكثر من بضع أيام لأعلان أنتصارها. وقد تكررت نفس الأستراتيجية تقريباً عند أحتلال العراق في 2003.في بداية هجومه على غزة، ثم لبنان أيضاً، حرص العدو الصهيوني على ضرب منظومة القيادة والسيطرة من خلال أستهداف القيادات الميدانية،ومواقع القيادة والأتصالات ومستودعات الأسلحة والأعتدة،وتدمير البنية التحتية وخلق حالة رعب بين المدنيين. كما حرص على التعامل مع كل جبهة (عملياتياً وليس أستراتيجياً) على حدة. أي وحدة الجبهات أستراتيجياً،وفصلها عملياتياً. فهدّأ من خلال الضغط الأمريكي والدولي وكذلك التهديد والحرب النفسية،من الجبهة اللبنانية والأيرانية وأسنادهما الفاعل لغزة لحين أنهاء القدرات الأساسية لحماس،وسمح للجيش الصهيوني بالأنفراد(تقريباً وليس كلياً) بمقاتليها. واليوم يفعل نفس الشيء في لبنان أذ عزلها عن عمقها الأستراتيجي(أيران) بخاصة بعد الهجوم الجوي الأخير عليها والذي يجبر أيران أن لا ترد بقوة،كما يجعلها لا تفكر بأستفزاز الصهاينة من خلال مزيد من الدعم لحزب الله،كي لا تغضب أميركا وتبدو هي المعتدية! ضمن نفس الأستراتيجية نفهم لماذا بدأ العدوان على لبنان بضرب منظومة البيجرات،وحملة الأغتيالات المنظّمة لقيادات حزب الله،وضرب كل مواقع القيادة في الضاحية،وتدمير وحصار طرق المواصلات التي تؤمن الأسناد لحزب الله سواء عن طريق البر أو الجو أو البحر.وهكذا نفهم أيضاً لماذا ركز الهجوم الجوي الأخير على أيران على منظومات الدفاع الجوي S300 والتي لا يمكن تعويضها، ومصانع الصواريخ وتسهيلاتها وبما يضمن هدفَي الحد من قدرات أيران على مهاجمة أسرائيل أولاً،وفتح المجال الجوي الأيراني أمام سيادة جوية أسرائيلية يمكن أستثمارها في مزيد من الهجمات المدمرة مستقبلاً وحينما يسمح الموقف السياسي والعسكري بذلك ثانياً،وعدم أغضاب الأدارة الأمريكية فضلاً عن الحصول على تعويضات مهمة منها(مثل بطريتي ثاد) ثالثاً. أن كل ما يحصل حالياً كما يبدو من منظور أستراتيجي،يقع ضمن مخطط شامل يتم تنفيذه على مراحل يبدأ في كل مرحلة بأستهداف الرأس(القيادة والسيطرة) والقلب (تدمير البنية التحتية والخسائر المدنية الهائلة التي تثير الرعب وتضغط نفسياً)،ثم الأنتقال الى معالجة الأذرع ميدانياً وعملياتياً. هذا يعني أن من المرجح أن أسرائيل لن توقف عدوانها حالياً.
هنا أنتقل للبعد الثاني أي ما يجب على أيران فعله. بأعتقادي فأن أكبر تهديدَين أستراتيجيَين يواجهان أسرائيل اليوم هما وحدة الجبهات على الصعيد العسكري، والضغط الدولي عليها لأيقاف الحرب على الصعيد السياسي. أن أسرائيل لا تمتلك القدرة على الدخول في حرب شاملة على كل جبهات المواجهة الممكنة والممتدة من اليمن الى غزة. كما أنها لن تتمكن من مواجهة الضغط الدولي لأيقاف الحرب،بخاصة حين ترتفع أسعار النفط. هذا فضلاً عن أن كل معادلات الدعم الأمريكي والدولي لأسرائيل ستتغير أذا أصبح ترامب سيداً للبيت الأبيض مجدداً. هذا يعني أن أمام أيران فرصة جيدة لكن محدودة الزمن لمهاجمة أسرائيل وأيذائها وتفعيل كل ساحات المواجهة ضدها. لا أعتقد أن أسرائيل ستكتفي،بخاصة أذا جاء ترامب،بالرد الذي قامت به قبل يومين على أيران فهدفها النهائي هو أنهاء أو تحييد التهديد الأيراني وأذرعه في المنطقة. وأذا كان الوقت الآن يعمل لمصلحة أيران وضد أسرائيل،فأنه بالتأكيد لن يدوم كذلك بخاصة بعد أن تنهي أسرائيل قدرات حزب الله كما فعلت مع حماس من جهة، ويحل ترامب في البيت الأبيض فضلاً عن سيطرة الجمهوريين على غرفتَي الكونغرس كما هو متوقع من جهة أخرى. قد تبدو أسرائيل ضعيفة،لكنها كذلك. وفد تبدو خيارات أيران محدودة لكنها ليست كذلك. أن من يعرف ماذا يدور بعقل العدو،وليس فقط ما يمتلكه من قدرات،هو من سيربح الحرب في النهاية.