الشاعر مهمّش على أطراف الحياة.. قراءة في قصيدة «تحت المطر»
حنين إبراهيم معالي
المطر أصل الحياة؛ فهو الذي يؤثر بكل مَن يشعر به على هذه الأرض، جاعلًا الأشجار والأزهار تشتعل وتكتسي بالجمال والحياة، فالمطر يغسل الشجر وأوراقه؛ ليبدو لامعًا ويشعر الإنسان بتغير شكل الطبيعة حوله، وشكل الشوارع، والجدران، والأبنية، وهو لا يؤثر في الطبيعة فقط، وإنما يؤثر في المدينة وشوارعها، مما يسهم في تغير ملامح المكان، ولونه، ورائحته، ويظهر هذا في قول الشاعر:
تحت المطر...
كل شيء يشتعل
الأشجار...
بزيتها اللامع
تحت وميض البرق...
الأزهار...
بجيوش عطرها
الجدران...
تكتسي بسحنة خجلها الأولى
وعلى الرغم من جمال المطر وصلته بالحياة إلا أن الليل الشبيه بوجه إفريقية تزين بالأحمر القاني، وكأن المطر يجمع بين التفاؤل والحزن، ويظهر في معالم الأشياء والأماكن فـ “بيوت القصب تسرف بنشر صفائح الذهب التي سرقتها الشمس” وكأن انعكاس الشمس على القصب يغدو أحيانًا وهميًّا؛ لأن الشمس هي التي تبث أشعتها فتغير لونه، ولكن الشمس قد تغيب بوجود المطر ، ويبقى أثر المطر حاضرًا على أوراق الشجر، وعلى الزوارق التي تتعانق عناقًا يشبه عناق البشر؛ وكأنها إنسان يعانق إنسانًا آخر، متأثرًا بما يبثه المطر فيه من الحياة والشوق للحركة والوصول إلى بر الأمان، ولا ينسى الشاعر أثر المطر في العشاق الذين لا يملكون سوى قصائدهم وكلماتهم التي يكتبونها تحت المطر؛ ولذلك تأتي القصائد مبللة بالماء، وكأنهم يحثون الخطى عبر الطريق الصاعد إلى السماء، الذي ربما يساعدهم على الكتابة، وعن التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم المكبوتة، فهم لا يملكون شيئًا في المدينة، ويجلسون على أعتابها أو على هامشها مكتفين بقصائدهم التي يتمنون أن تصل إلى السماء عن طريق المطر؛ ولذلك يمشون تحت المطر، حاملين مظلاتهم التي بقيت معهم، تتشابك بمن حولهم من المحبين، وكأنها تتبادل المشاعر والمحبة فيما بينها، بينما يجد الشاعر نفسه وحيدًا، والمطر لا يذكّره بالحياة، والأشجار، والأزهار، والمحبين، وإنما يذكره بمظلته التي لم تبقَ معه، بل حملتها الريح دون عودة، وتركته ثابتًا في مكانه متسائلًا وواقفًا على ناصية الشارع، لا يعرف ماذا يفعل؟ ولكنه ينظر إلى الشارع، ويكتشف ما بالشارع من دمار حل به بسبب الحروب، وكأن الشاعر يجعل المظلة التي تحميه من المطر، رمزًا للبيت المدمر من الحرب الذي يقي الإنسان من حر الصيف وبرد الشتاء؛ ليجسد المعاناة والألم.
وهذا يظهر أن المطر في القصيدة بما يحمله من حياة وتأثير في الأشياء هو رمز للخصب والاستمرار في الحياة على الرغم من صعوبتها؛ إلا إنها قد تكون صعبة على مَن واجه الحرب ولم يبقَ لهم بيت يظلهم، ويشعرون فيه بالأمان، والحياة، والاستقرار، ولكنّ الإنسان يبدو مهمشًا على أطراف الحياة في هذه المدينة الصاخبة التي لم يعد الناس يملكون شيئًا منها إلا ما يكتبون من القصائد، ويزيد تهميش الإنسان في المدينة عندما يصبح بلا مظلة، نتيجة للحروب التي تشبه هبوب الريح، وتغير أحوال الإنسان، فيصبح منهكًا تتغير معالمه، وتتغير معالم المكان حوله، فالمطر يمثل الحياة، والحرب تمثل الموت وبين هذا وذاك تولد الكلمات والقصائد.
إلا أنا.....
فالمطر لا شغل له
إلا بتذكيري بمظلتي التي
سرقتها الريح ...
وتركتني مثل
تمثال قديم
على ناصية شارع
أنهكته الحروب !!!
أكاديمية وناقدة من الأردن