كان اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي من أهم أسباب بزوغ فجر النهضة في أوربا، ومن أفضل ما عرفته في تاريخها من إنجازات، فقد يسر ذلك تطور التعليم في المدارس والجامعات، وشجع على انتشار موجة التأليف، وأسهم في إطلاق حركة البحث العلمي.
قامت المطبعة بهذا الدور في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، وكانت سبباً في تشكيل الوعي، والشعور بالانتماء للوطن والأمة، فنشأت أفكار، وتيارات، ومدارس عقلية، لم تعهدها المنطقة من قبل، لكن الطباعة لم تمر كأي فكرة جديدة دون معارضة، فمثلما رفضت خطوط التلغراف، والسيارة، وخطوط السكك الحديد، وقاومها البعض بعنف زائد، فإن الطباعة رفضت هي الأخرى، ليس لأنها قضت على طبقة النساخين والخطاطين، الذين كان لهم الفضل في الحفاظ على التراث القديم، فحسب، بل إن رجال الدين المتزمتين، كانوا في مقدمة المعارضين، لهذا الاختراع العجيب أيضاً.
ومن الطريف أن شيخ الإسلام في الأستانة حرم طبع الكتب الدينية، وجوز ما سواها على كراهة، في المطبعة التي جرى استيرادها عام 1727.
ولا أعرف السر وراء ذلك، مع أن طباعة الكتب الدينية تسهم بالضرورة في خدمة الفكر الديني، وتعين على انتشاره بين الملأ، وتؤدي إلى تصحيح الكثير من المفاهيم الشائعة والمغلوطة عنه، ولم يدر شيخ الإسلام هذا أنه أعاق نمو الوعي الديني لسنوات طويلة، وتسبب بانتشار الفكر الغربي، وتقويض أسس الدولة، وتخلف مؤسساتها العلمية والاقتصادية والاجتماعية، وربما لم يكن الرجل وحيداً في دعوته هذه، لكنه الأول الذي اتخذ مثل هذه الخطوة.
واستمر هذا الوضع برهة من الزمن، لكنه انتهى بتقلد أشخاص أكثر انفتاحاً منه لهذا المنصب، ولم يشمل المنع أصحاب الأديان السماوية الأخرى الخاضعة للإمبراطورية، وهو ما شجع على انتشار المطابع في بلاد الشام، التي كانت نقطة الانطلاق الحضاري للعرب في ما بعد.
في القرن الماضي كانت محلات بيع الكتب تملأ الأزقة والأحياء في العراق، وكانت موجودة في المدن النائية المعزولة عن باقي البلاد، وبهذه الطريقة انتشرت وسائل المعرفة وأدوات الوعي، وبات الريف العراقي يزخر بالطاقات الشابة التي اختطفها بريق السياسة، وسط حياة الحرمان التي كانت تعيشها فيه.
إن التقنيات الحديثة التي هبطت على دنيا العرب، لم تكن السبب في تغيير مستوى العيش في بلدانهم فقط، بل غيرت من تفكيرهم أيضاً، وليس ذلك بغريب، فالتنمية هي التي تقود المسيرة الاجتماعية، وهي التي تخلق المؤسسات الثقافية، وهي التي تنشئ التيارات السياسية، والأحزاب، وللأسف فإن الناس لدينا لم يكونوا منتبهين لهذه النقطة، فكانوا يبدأون من الأخير، ويخوضون معترك السياسة من أجل تطوير مواردهم الاقتصادية، متناسين أن الوعي لا ينمو في مجتمع راكد ليس فيه تحولات في أسلوب العيش، أو تبدلات في العلاقات الإنسانية، وهذا هو السر في ما آلت إليه الحياة في بلداننا من ضيق وعسر وتخلف، رغم ما فيها من ثروات طبيعية وبشرية.
ولا ريب عندي، أن من يريد قيادة المجتمع، في العراق أو سواه من بلدان العرب، عليه أن يبدأ من نقطة الشروع، وهي التنمية، حتى يستطيع إحداث تغيير ما في البنية الاجتماعية، وأن يحشد لذلك ما يراه ملائماً من التقنيات الحديثة، فهذا هو السبيل الأمثل للتقدم، ولن يمر هذا دون عقبات بالطبع، فالمجتمع مجبول على مقاومة كل جديد، أما السياسة لوحدها فلن تقود إلا إلى المزيد من التفكك، ولا شك أن مراعاة سلم الأولويات هي من أهم عوامل النجاح، في مفاصل الحياة كافة، وليس التقدم استثناءً من هذا باي حال من الأحوال.