رحيلكم.. لن يبعدكم عنا
إستذكار وفائي لنجوم الإعلام والفن في الدورة
قاسم المعمار
عبر تلك الغربة الحالكة المهلوسة ماشياً حائراً بين اطلالات هرمة لتلك الوجوه التي عشقناها فناً وثقافة وجلسات سمر جمعتنا حالمة في بحبوحة الغناء والشعر والادب من افواه احبها الوطن واحبوه .. اليوم لأجدهم امامي افتقدناهم بعاثرات الزمن وقسوة الحياة وافتراق سكناهم ما بين من توفى ورحل عنا الى جوار ربه واخر اسير سرير الموت البطيء والثالث عاكف الدار يعد اصابع اليد لا انيس ولا ونيس يشاطره احلامه وذكرياته هموم الدنيا احاطته بؤساً وكمداً.
نعم عشناكم حلماً في اشتياق دائم اليكم اذ قادتني قدماي بين ازقة هذه الكوكبة من نجوم الفن والادب في احيائهم بمدينة الدورة ببغداد والتي جمعتني واياهم صلة الجيرة والصداقة طيلة عشرات السنين بتبادل الزيارات وحضور جلسات السمر والقفشات الشعبية والمساجلات الشعرية وانواع الزجل حيث كانت صالة المرحوم الفنان خليل شوقي واحدة شاهدة على هذه الاريحية المجتمعية وصيحات الفنان الراحل سامي السراج تلوح من داره القريب منهم ها أنا اتي اليكم مع قهقته المعهودة للجميع ثم يتوالى الحضور ومنهم الدائمين الفنان الراحل كريم عواد وصديقه وجاره الفنان وجدي العاني حيث تمتد هذه الجلسات ساعات نتجاذب فيها احاديث المسرح العراقي ابان الستينات والسبعينات وماتلاه من مواكبات فنية محلياً وعربياً ودولية وما حصدت تلك المسرحيات من تكريم وجوائز في التأليف والتمثيل والاخراج والاقتباس للأدب الروسي والفرنسي والانكليزي وغيرها. وقد استذكرت انواع المعجنات والحلوى التي كانت تعدها للحضور الفنانة القديرة مي شوقي ابنته الكبيرة وسط ترحيبها وابتسامتها الدائمة.
وتأخذني عاصفة الاستذكار وانا استبصر داريَّ الفنانين العاني والعواد المتجاورين المتروكين الضائعين بين اتربة الزمن وغبار النسيان لهجرة الاول ورحيل الثاني لجوار ربه دون حدث او نسل يذكرهما ... ثم يمضي بي المسير وانا اقف شامخاً امام هذا الصرح الجميل المتروك الباكي لصاحبه المطرب صباح السهل الذي عشته العديد من المرات معه في التوصيل الصباحي الى دائرتي الصحفية وهو يدندن بصوته الشجي اغنيته الجديدة (بلايا وداع) متسائلا: هل اعجبتك ياعزيزي؟ اجيبه على الفور (بلا مجاملة حلوة مثل صاحبها) ليقول (قريباً ان شاءالله سأسمعكم اياها في جمعتنا القادمة في دار الفنان الكوميدي فوزي مهدي ابا علي). ولكن القدر اخذه منا برحيله عنا الى جوار ربه. وبعد فترة من الزمن التقي صديق العمر الكاتب والصحفي المهاجر كامل المالكي في نقابة الصحفيين العراقيين حيث كانت لحظات لقاء وذكريات لذلك الماضي الذي عشناه معاً مع فناننا صباح السهل واللذان كانا يعملان موظفين في مكتب العلاقات والاعلام في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية حيث كان السهل يعد من ابرز رسامي الكاريكاتير والرسوم التخطيطية الوهاجة داعين الرحمة الربانية له.
اما في زقاقي الذي اسكنه حالياً فله طعم جميل لتلك الوجوه الرمزية من فناني العراق بل والعرب فقد كانت دار الراحل فوزي مهدي مرتعاً خصباً للنكتة والتفكه والتحاور الشعبي الاصيل بمشاركة ثنائية مع فنان الشعب خليل الرفاعي ابو فارس حيث فناننا الراحل الهادئ زهير عباس (ابو بهاء) المحرك الديناميكي للمشاكسات الهزلية بين الفنانين الرفاعي ومهدي. ومن اجل ان يتم لم الشمل يكون معي في هذه الدعوة الفنانين العزيزين يحيى حمدي مطرب الخمسينات للأغنية البغدادية وعلي العادلي ويوسف سلمان الماكيرين المتميزين في المكياج ويسمعه ولده الفنان احمد يوسف سلمان الذي رحل عنا قريباً الى مثواه الاخير.
صوت شجي
ومما يزيد هذا الحضور روعة وصول الملحن محمد جواد اموري وحاضرته الدائمية الاداء (عد وانه عد ونشوف ياهو اكثر هموم من عمري سبع سنين وكليبي مهضوم) بصوته الشجي الحزين العذب ابن طويريج (الهندية) كنت تلميذه في الابتدائية نهاية الخمسينات ومنشداً ضمن فرقته المدرسية الفنية . فهو صاحب موهبة تلحين واداء وعزف آلتي العود والكمان ورحيله كان يوم حزين لكافة اصدقائه ومحبيه له ولولده الفنان المتألق نبراس في حياته الفنية. فيما تزدان به جلساتنا انئذاك شدو شاعرنا الغريد محفوظ داود البصري بقصائده الجميلة وهو يأخذنا الى عالم السحر والخيال الا ان رحلة الموت جاءته مسرعة لتأخذه منا.
تليه وفاة الشاعرة الام الوفية باسمة الشوك المتنعزلة دائماً بحب العراق ومجد الامة اذ تحولت دارها الى اطلالة باكية ذلك المجد الذي ذهب. كنت معجباً بأدائها الشعري وقوة وتماسك تعبيراتها وصورها الشعرية كانت دائماً تصحبني معها الى دار الايتام وعرفت فيما بعد حنوها الكبير بإحتضانها ورعايتها لإحدى الفتيات وتعهدها بكسوتها وتربيتها طيلة حياتها. عقبها رحيل صديقنا الاديب الكاتب المترجم الفوري للغة الاسبانية عبدالجبار الحكيم ذو الاخلاق السامية وصاحب النكتة السريعة لأي حدث. وتحاوره المطول مع الاستاذ الراحل محمد مهدي المبارك خاصة الاخير اختصاصه الفلسفة ويعشق اراء ومعتقدات الفلاسفة العرب والمسلمين لذا اطلقت عليه تسمية ابو حيان فيما اطلقت تسمية الحكيم على الاول لجذوته الفكرية في البحث والتحليل والاستنتاج واتساع معرفته وثقافته العامة في الادب العالمي.
ومن البيوتات الادبية التي غادرنا اصحابها الى رحمته تعالى وانا اقف اتصور عزها ومجدها وبهائها لتلك الوجوه الاعلامية من المذيعين المتألقين عامر محمد رشيد ومقداد مراد واكرم محسن وغازي فيصل ورشدي عبد الصاحب وهجرة المذيعين الطيبون الذكر خارج الوطن ومنهم عبداللطيف السعدون واحمد عبدالله وخير محمد صالح.
كما رحل عنا الصديق ناهض عبدالرزاق القيسي العالم الآثاري والتاريخي الذي عمل خبيراً اثارياً في الهيئة العامة للآثار والتراث ثم استاذاً ورئيساً لقسم الاثار جامعة بغداد وهو يشارف التسعين عاماً اكاديمياً ناجحاً ومرجعاً ومصدراً مهماً لطلبة الدراسات العليا .. وهو من ادباء الحي هذا الى تلك الوجوه النيرة الرائدة في حقل عملها في التصوير السينمائي والفوتوغرافي حتى علا صيتهم محلياً وعربياً تتلمذت على ايديهم اجيال من المصورين الاعلاميين فهذا القدوة المباركة الراحلة تمثلت في شخصية صديقي وحبيب العمر رشيد الشبلي ابو سالم رحمه الله والثاني في شخصية المصور السينمائي قاسم عباس الذي عاد الوطن مؤخراً بعد غربة سنوات طويلة خارج الوطن. فيما غادرنا مهاجراً الوطن المصور السينمائي المعروف منذر جميل فهو من الكوادر الفنية المهمة في هذا الفن. كانت هذه الكوكبة محترمة وسعيدة في علاقتها الاجتماعية لهم منزلة تقديرية من لدن المشاهدين والمتابعين – ومن الوجوه الاجتماعية المعروفة في حي الاعلام في الدورة– المهديات ولديهم ارشيف وثائقي قيم لا نعرف مصيره اليوم. ومن جيد الوفاء لهذه الاطلالة التراجعية لمسيرة الحياة نؤمن بقدسيتها وحكم ربنا الغفور الرحيم لكل من ورد اسمه في هذا الاستذكار الكريم وعذراً مسبقاً لمن فاتنا حضوره سهواً فقط. ويشكل حي الاعلام في منطقتي المهديات والميكانيك في الدورة نموذجاً خلاقاً ورائعاً لتواجد المئات من الرواد والكوادر الفنية في المسرح والسينما والاذاعة والتلفزيون ومن مختلف الصنوف والفنون الاعلامية لها مكانتها محلياً وعربياً ودولياً تستحق اليوم ان استذكرها والتوثيق لها جزءاً من الوفاء لها. ومازلت اتذكر مقولة عزيزنا الفنان الراحل كريم عواد الدائمية (اتمنى ان يكون داري متحفاً للفن والفنانين في الدورة).