الأوليغاركيات الثلاث في العراق.. الحضور الضار والغياب المستفز
مزهر الخفاجي
(( الانقلابات في العراق وطنية ضيقة..... والسكوت على قبول القطيع بمصائرهم أمرٌ غريب)).
( سوسولوف)
بوسعِ أي واحدٍ منّا أن يتحدث عن الحريّة كما يراها وحسب، بل وكما عرفها وكيفية اختيارها في تجربته الشخصية. لهذا يعتقد ان الحديث عن العبودية في معانيها المادية والاجتماعية والفكرية... إيغالاً في تاريخ البشرية قد عفى عليها الدهر؟!.
وإنّ الحديث عن الحريّة كمفهوم إنساني، عبرّت عنه الفطرة البشرية، ونقصد بها الحقوق المطلقة، أو ان الحق المُطلق هو ضربَاً من ضروب البطر الفكري والثقافي، الذي لا يخلو من خيانة لمبادىء وثقافة الأمة؟.
عوداً على مفهوم الحق الطبيعي، التي يفككها ( الفيلسوف سينونز) من كونها الحق الطبيعي، أو هي نواميس الطبيعة أو قواعدها التي تنظّم شرايين الأشياء في هذا العالَم، أي انها قوة الطبيعة ذاتها.وبتعبير آخر، ان الحق الطبيعي هو محصلة نمط من الأنماط الخاصة في الأداء السلوكي. ما زلنا في توصيف الحق الطبيعي، حيث نقول أيضاً، ان ما يُنجزه انسانٍ ما بمقتضى الطبيعة إنما ينجزه بما هو حق طبيعي له هي من جملة حقوق أخرى.
طبيعة بشرية
وهذا الحق الذي ينعم به بكل حيوية في الطبيعة، الذي يُقاس ايضاً بدرجة قوته. وعليه إذا كان ما جبلت عليه الطبيعة البشرية بتحمّل الناس على العيش وفق مقتضيات العقل وحده، وبمنع جهودهم من أن تتوسّع الى مجالات أخرى.
لذلك يصبح الحق الطبيعي في تمظهره الخاص بالنوع الانساني مُحدّد بقوة العقل المحكوم بقوَتي الفطرة السليمة واحترام عقودهم الاجتماعية، لا ان يكون بتقديم القوة الجسدية أو تقديم رغباتهم وعواطفهم من أجل الحصول على حرياتهم خلافاً لمنطق العقل.
وإذا كانت الحرية هي الحق الطبيعي الذي منحته الفطرة السليمة للذات البشرية، ففي هذه الحالة، إذا اردنا ان نؤطر لموضوعنا لا بّد علينا ان نذكر، ان العبودية هي واحدة من معطلات حرية الأفراد، وربما كانت نواميس طفولة العقل البشري قد أقتضت من الفرد ان يسير وراء معتقده الديني.
في هذه الحالة يمكننا اجمال المميزات التي يجب ان يؤمن بها الانسان بما يلي:
1 - ان اهم الفضائل في عقيدته يفترض ان تتجلى في روح الطاعة لدى الانسان.
2 - يكافأ الانسان ويُجزى على مقدار طاعته وخوفه من الألهة.
3 - تمثل قوى السماء الرابط الذي يربط الانسان بالموت وتتحكم في مصيره وتنظم علاقته بأخيه الانسان.
4 - دفع الفرد القديم على تقديس مراكز ثلاث: ( حكوماته وعشيرته ومعتقده الديني).
وقد بالغ النص التاريخي في تقديم نصوص لتقديس الحاكم ورئيس العشيرة ورجل المعبـــــد ( رجال الدين)، الى الحدّ الذي جعلها نواميس مقدسّة. وان اصبح العادي ونقصد الحاكم القوي مقدساً على رأي الكاتب « مرسيا ألياد».وان تحوّل المقدس، ونقصد حرية وكرامة الانسان عادية. لذلك تتحول علاقة الانسان الفرد بالآلهة كعلاقة العبد بالسيد. تجدر الاشارة الى ان علاقة الفرد بحاكمه تستلزم التفريط بحريته حدّ العبودية. وان تطلبت مصالح الأرومة البشرية الى شكل من اشكال العبودية، التي أقرّتها نواميس مجتمعات بدائية. فقد توالت اوليغاركيات العشيرة ورجال الدين والعوائل الاقطاعية الى اوليغاركيات تكرّس مفهوم الطاعة.
التي تحولّت تاريخياً الى نمط من انماط العبودية والطاعة المطلقة لهذه الاوليغاركيات من كونها هي الأصل الاجتماعي المقدّس، وهي الأصل في توكيد مواطنيته. وان العبودية لهذه المركزيات الثلاث هي الأصل في ايجابيته وتفاعله.
وان الخروج عنها، وان تماهى مع حقه الطبيعي في الاستمتاع بحريته مثلاً تُعّد حقاً غير أصيل، فضلاً عن ذلك يمثل تجاوزاً على المقدس. إذ ان اصل الوجود البشري وفق قواعد ( الاوليغاركيات) تجاوزاً يتطلب العقاب.
وذلك لأنه والرأي لأصحاب المقدس... عندما تتم البيعة ( الولاء) يصبح لِزاماً على كل فرد ان يُقدّم الطاعة العمياء، ويكون هذا الواجب المفروض مُلزِماً طيلة حياة الفرد. بعد هذه المقدمة كان لِزاماً علينا ان نقترب من هذا الواقع التاريخي والاجتماعي، الذي جعل كل من العشيرة ورجال الدين والعوائل الاقطاعية من هذه الاوليغاركيات، وكيفية تكريسها لمفهوم ( العبودية بالإختيار). ومن ثم تكريس مفهوم الطاعة المخالف لمفهوم الحريّة كحق طبيعي، وكيف انها ساهمت في استلاب هذه الحريّة وتسطيح الوعي المجتمعي.
العشيرة تاريخياً
ضبط السلوك
دوكَيهام العالم الفرنسي معرفاً العشيرة بالنقاط التالية:
* هي الوحدة الاجتماعية التي لا تزال تتمسك بوحدتها وتجانسها وعدم الرغية في الانقسام.
* الحفاظ على البناء الاجتماعي والتنوع.
* ضبط سلوك الافراد، اي منظومة القيم.
* الحفاظ على السلم المجتمعي ( توفير الأمن).
* هي المكون الغير قابل للأنقسام وإن انقسمت فهي تتكاثر اجتماعياً .
* وهي كمؤسسة اجتماعية تهدف الى:
- تعظيم الأمن والاستقرار.
- بث روح الطمأنينة بين الأفراد.
- زرع الألفة وغرس المودة.
لذلك فالعشيرة هي وحدة اجتماعية تُعد امتداد للأسرة وتتميز بتسلسل قرابي معين يتفق مع نظام سكني خاص. وبالنسبة الى العشيرة في العراق فهي احد المكونات الاجتماعية فيها، حيث تُعد هذه الصلة هي التي تصوغ سلوك المجتمع وتساهم في تماسكه.
ويبدو أن صلة الدم وقوانين الجغرافية قد أدى الى تأصيل وجودها، فاصبح عيش الفرد داخل هذه الجماعة التي تحكمها صلة الدم والواقع الجغرافي والأقتصادي الى تعميق فكرة الانتماء.
لذلك نرى تميز المجتمع العراقي كونه مجتمع قبائلي وتميز كذلك بتعدد نظامه القبائلي، حيث يبدو أن القرابه وصلة الدم والواقع الجغرافي ومنظومة القيّم قد كرست سلطة العشيرة على افرادها.
البعض يجب عليه ان لا يتوهم في تصديقه قول بعض المندسين، من أن العراق دولة تكوّنت مطلع القرن العشرين، فالعراق دولة قديمة، حيث انها كانت مركزاً لخمس حضارات سابقة.فعندما خضع العراق للأحتلال العثماني شاركت كل مكونات مجتمعه في ثورة العشرين، التي هي إنموذجاً لوحدته الوطنية، التي كان من أهم خصائصها العشيرة، والتي كانت هي رأس القضية في التصدي للاحتلال العثماني والاحتلالات الأخرى.وهذا لم يمنع من وجود بعض السلبيات التي رافقت سلوكيات العشيرة، والتي يمكن تلخيصها بما يأتي:
- ظلت العشيرة مرتبطة بالأرض... التي كانت اساساً للإحتراب على الأرض.
- العشائر ( وألقصد هنا بعض زعمائها) أرتبط بمصالحه الشخصية خصوصا الاقتصادية.
فأنحاز للمحتل ( عثمانياً، انكليزياً، وأمريكياً).
- ظروف العوز والجفاف والرغبة في التوسع حولّت بعض شيوخ العشائر الى طبقة نبلاء،
ممّا استدعى بعض افراد أسرهم للهجرة الى بغداد.
- كانت العشيرة في بعض الاحيان تعاكس دَور الدولة في العصر الحديث، او تخالف القوانين فيها.
- التمسك بالمفاهيم القبلية البالية مثل: ( النهوه- والدكَه) من خلال اللجوء للسلاح وممارسة
العنف.
أسباب تأخر حركة النهضة في المجتمع العراقي
1- السياق التاريخي المبعثر، الذي ساهمت في تأخره هي العشيرة وإنماط علاقاتها
الاجتماعية.
2- أسباب سياسية، التي منها بشكل أساس، غياب نظام الحُكم المستقر، الذي رافق تاريخ
العراق.
3- البُعد الطائفي في التعاطي المجتمعي، الذي استخدمته قوى الاحتلال عبر التاريخ.
4- التحديات الاقتصادية، التي منها بشكل اساس ( التخلف الحضاري)، الذي تعمدت
بسلوكها قوى الاحتلال.
5- التدخل الخارجي، الذي ساهم في تشكيل نظم الحكم فيها لحكم العراق.
6- التخطيط الأيدولوجي على مستوى الانتماء الفردي وعلى مستوى نظام الحكم، وعلى
مستوى التخطيط الستراتيجي للدولة ممّا ساهم في ضعف الدولة.
7- غياب العقد الاجتماعي الجامع ( الدساتير) التي كرستها وساهمت في هذا الضعف،
الجماعة الوطنية والثقافية ورؤساء العشائر، الذين كانوا في مقدمة هؤلاء.
انعكاسات التأخر المجتمعي على المجتمع والدولة في العراق
أولاً- اسباب تاريخية منها تعرّض العراق الى العديد من الاحتلالات والغزوات، التي كان من نتائجها:
1- غياب روح الاستقرار المجتمعي.
2- تدهور نظم الحكم فيه.
3- غياب الاستقرار السياسي، وذلك من خلال شيوع نظام التسلط واضعاف روح الانتماء.
4- غياب مفهوم العدل الاجتماعي.
5- إضعاف مفهوم الهوية الوطنية.
ثانیاً: الدين والسلطة، اللذان كانا يُعانيان من التعارض او التخادم في أغلب الاحيان. فالدين في مجتمعاتنا هي من العوامل المهمة في تأخر مجتمعنا وذلك لعدم توجيه واجبار ولاة الامر بالالتزام بالأمور او توجيههم ببعض الامور، التي منها:
1- منع زرع القيم البالية في نفوس الساسة.
2- منع الحُكام من الساسة من المتاجرة بقضايا الشعب.
3- الدعوة الى اقامة العدل.
تجدر الاشارة الى ان علاقة رجال الدين مع السلطة تميزت بالصفات التالية:
أولاً: تصالح.
ثانياً: تعارض ( عداء).
ثالثاً: إستغلال.
رابعاً: احترام.
جدير ذكره، ان علاقة رجال الدين بالسلطة مرّت بعدة مراحل منها:
* سلطة رجال الدين اعلى من سلطة الدولة، وان بدى غير واضحاً بشكل جلي، لكنه موجود
في الواقع بشتى الاشكال.
* صارت الحاكمية الدينية فوق كل السلطات في الدولة.
* صارت تفرض الضرائب ممّا جعل الناس يرفعون شعار ( فصل الدين عن الدولة).
وقد تجلت هذه الممارسات في المنطقة العربية، حيث تبنت الحركات الإسلامية في حزبيها التحرير والإخوان فكرة الحاكمية لله. في حين ذهب التنويريون الى فصل الدين عن الدولة.
وإذا تطرقنا الى الدين المسيحي او المسيحية بهذا الشأن وامكانية ربطها بتلك الاسباب السابقة، فانها لم تنشأ في ظروف بسيطة، اي المسيحية. بل نشأت الديانة المسيحية في ظل وجود دولة قوية، لذلك لم تتمكن الكنيسة من فعل تلك الافعال.
أما في حالة الديانة الاسلامية فظروفها تختلف حيث نشأ الأسلام في الجزيرة العربية في طبيعة قاسية، أي في ظل بيئة يتم فيها تجاوز الحق الطبيعي للمجتمع وحقه في ممارسة حقه الطبيعي في التعبير عن رأيه.
فضلاً عن توفير مناخ من الحرية لممارسة حقه الطبيعي في الديمقراطية التي تضمن له اختيار شكل نظامه. والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين هذه السلطات ، ونظام دولة يتعهد باقامة دولة العدل بعيداً عن تأثيرات سلطة العشيرة ورجال الدين ليجعل مجتمعها يسير في الطريق الصحيح.
ثالثاً: العوائلية وملاكي الأراضي: لا نأتي بجديد إن قُلنا ان المجتمعات البشرية قد تنوعت في تكويناتها على المستَوَيات الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. هذا الامر هو الذي دعا المفكر ( مونتسيكو) الى ضرورة قراءة التاريخ عند الحكم على ظواهر هذه المجتمعات، وجعل التاريخ ميداناً فيه قدر من التحليل الفكري والعقلي لهذه المجتمعات.
وذلك عن طريق تقريبه من الواقع الثقافي للشعوب والأمم. ويؤكد مونتسيكو في قراءته لتطور المنظومة السياسية في أي بلد، إنما يكمن في اعراض سياسية عديدة. ولكي تنتهي هذه الظواهر، يجب ان تكون الحكومة مستقرة.
وفي رأيه تعتمد الحكومات على الفضيلة ( وفق منطق جمهورية افلاطون). وتعتمد هذه الفضيلة على الشرف، بينما يعتمد الاستبداد على الخوف او على الرعب. ويؤكد المفكر “ جون لوك “ ان الفضيلة المقصود بها ليست الفضيلة الاخلاقية فقط.
بل ان الفضيلة السياسية، التي تتمثل في احترام الانسان للانسان واحترام حريته، واحترام القانون من قبل الفرد وحرصه على رخاء وراحة الجماعة من الجانب الآخر. ويقصد بالشرف، الكلام ما زال لمونتيسكو:
احترام الفرد لما يرتبط به من التزامات بموقعه أو مكانته التي يشغلها.
ونضيف ان العامل الحقيقي لتشويه الاخلاق... وكأنه يجيب على علل مونتيسكو، ان العامل الحقيقي للبشرية ولخلق عذاب وشقاء البشر. انما يبقى في المجتمع لمدة، وان المجتمعات تدمرت باربع مراحل تاريخية عدّها ممثلة لمسيرة الشقاء الانساني.
فكان الانسان في المرحلة الاولى يمتلك مَلَكتي حفظ الذات والعنف متنكباً بحاجاته الأساسية التي لم تتعد القوت اليومي والحاجات الجسمية القليلة الأخرى، حينها لم يدرك الانسان سوى حاجته الى الطعام والسكن والعاطفة.
لكنه لم يكن يشعر بشرور الاحساس بالجوع والألم. اما في المرحلة الثانية التي كانت طويلة نسبياً، فقد بدأت الفروق الفطرية الجسيمة تولد درجات وطبقات من التمايز الطبقي وتفاقم الفروق بين البشر بفعل عامل ازدياد السكان واتساع مجالات التفاعل فيما بينهم.
هنا في هذه المرحلة نما ادراك الانسان من خلال تمييزه للاشياء التي تنفعه او تهمه، فزاد حرص الانسان على ابناء أسرته وارضه بعد ان اصبح يمتلك قطعة ارض يزرع فيها ويوسع بها، التي تعد اول نمط من انماط التملك.
وفي هذه المرحلة بدأت أولى بذرات الحياة المرفهة، التي تظهر على الانسان كما هو رأي ( جان جاك روسو). اما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة تنظيم المجتمع، التي بدأت من تشكيل الأسرة وانتهت بتنظيم المجتمعات نفسها بنفسها.
وعن المرحلة الرابعة التي استهلت بالاستقرار وتزايد حجم ونوع الملكيات. فقد بدأت من امتلاك الاراضي وتنوعها، مروراً بامتلاكه الادوات الزراعية، حتى وصل الامر به اخيراً الى استغلال وتشغيل الافراد فيها من الذين لا حيلة لهم ولا ملكية ولا قوت سوى سواعدهم.
ولن نتوغل في تحديد تاريخ نشوء نظام الاقطاع وتعدد مصالحه وتنوع اتجاهاته بعد ظهور انواع اقتصادات الدول فيه. لكن الغالبية العظمى من الباحثين يعتقدون بأن الاقطاع / أو العوائلية الاقطاعية.
كانت قد بدأت بعد انتقال الدولة فيه من الدولة الدينية ( الثيوقراطية) الى الدولة المدنية. فقد حرصت الدولة الدينية فيه على تمكين ( كهنة المعبد) فيها من امتلاك الكثير من الاراضي واغدقت عليهم الكثير من مكرماتها وهباتها المادية والمعنوية.
ولم تكتفي بهذا الحد، بل شاركت الاقطاعيات والعوائل الدينية فيها، اي شارك المعبد / القصر من انتقال المكاسب من يد الحكام من موقع الى آخر. ووفقاً لهذا الامر وعند ظهور الدولة المدنية- الاوتوقراطية فيها... وان صنفت طبقة الاوليغاركية / الاقطاعية لكنها ابقت عليهم من اجل السيطرة على مقاليد الحكم.
لكنها ظلت، اي الاقطاعيات او رجال الدين او ملاكي الاراضي، اما ان تخضع هي وما تملك لسيطرة الدولة قديمها وحديثها، أو ان تتظاهر او تبالغ بالولاء، وفي نفس الوقت تدافع عن مصالحها.
أو أن تتخادم هذه الطبقة مع النخبة الحاكمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً معها بما يضمن ولاءهم للدولة من اجل الحفاظ على مؤسساتها. وذلك مقابل تعهد من قبل سلطة الدولة على حماية مصالح الاقطاعيين وضمان مصالحهم وحماية املاكهم.
ومن نتائج هذا التخادم هو خلق اول طبقة سياسية سميت بــ ( الزبائنية السياسية الاقتصادية). وفي الواقع فان تراث الدولة القديمة قد صان مصالح الطبقة الاوليغاركية / الاقطاعية- العوائلية وتخادمها، مما ضمن لها توارث ثرواتها واقطاعياتها وامتداد اعمارها السياسية... وتناسلها اجتماعياً.
فضلاً عن بقاءها لكي تتحكم بمصالح المجتمع وتشترك مع السلطة / الدولة في فرض انماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى الاخلاقية. وقد تماهت هذه العوائل الاقطاعية وبقيت محمية من قبل الدولة / السلطة.
او بقوة السلطة مع جميع انماط الدولة وتكيفت مع مرجعياتها الفكرية والسياسية والايديولوجية، سواء أكان هذا النظام ملكياً ام جمهورياً... ديمقراطياً كان ام شمولياً. وهذا التماهي قد ضمن بقائها لحقب تاريخية طويلة.
سواء أكان في العراق او في المجتمعات العربية، التي ظلت ادوارها السياسية تتناسل وتغير من قناعاتها الفكرية حسب الطلب وحسب النظام القائم حين وجودهم. ووصل الأمر الى الحد الذي اصبحت قوى انتهازية وصولية عجيبة.
حتى ان تكون عنصراً فاعلاً في التغييرات السياسية، وان تتحكم في مشاريع بلدانها السياسية، وان ترسم شكل ونوع وفلسفة اقتصاديات هذه البلدان التي تتواجد فيها، التي باتت من سمات المجتمعات التي توجد فيها هكذا انواع من الطفيليات.
كيف اصبحت الطبقة الاقطاعية وملاكي الاراضي تشكّل الانظمة
علينا ان نثبت هنا ان الطبقة الاقطاعية كونها جزء لا يتجزأ من اوليغاركيات ثلاث ساهمت في تشكيل نمط انظمة العراق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والوطنية.
فهي ليست استثناءاً من شكل الانظمة السياسية والاقتصادية لمجتمعات العالم الثالث والوطن العربي، لكن ما يؤخذ عليها فهي ثلاث نقاط:
* انها كانت تشكلات بفعل الدول المحتلة او الدول الغير عادلة، وكانت هذه الطبقات تتفاقم
فيها في ظل التعاون المستمر سواء مع المحتل او التخادم مع شقيقاتها ( الاوليغاركية
العشائرية)، او الاوليغاركية الدينية. حيث كان دورها على الدوام قائماً على استغلال
مقدرات هذا الشعب المتواجدون داخله، والتجاوز على حقوقه في العيش الكريم، فضلاً عن
شيوع دولة العدل النسبي وليست دولة الطبقات والعوائل كما هو شائع.
* ان العوائلية هذه واقصد الاقطاعية وملاكي الاراضي قد ساهموا في تشكيل آخر وذلك من
خلال تحويل ابناء قرى ومدن العراق من اقصى شماله الى اقصى جنوبه. وتحديداً قد
حولوا ابناء عمومتهم ومن ابناء جلدتهم ومناطقهم الى عبيد. وقد زاد من هذا الأمر تخادم
قوانين الدولة المعاصرة في العراق والمنطقة وفق منطق انحياز واضح. ونقصد انحياز
دول الاحتلال او الدول الوطنية الحديثة حتى الآن كما يقول الباحث ( حنا بطاطو) في كتابه
عن العراق، انحياز المحتل في تسليم مقاليد الامور السياسية والاقتصادية للأقلية
الاوليغاركية تحت وطأة نصيحة الاحتلال العثماني للانكليز بحجة ان الاقليم مضمون الولاء
ومعروف التوجهات وواضح المعالم. هذا لانحياز قد اوجد شكلاً من اشكال الانقياد لطبقة
الاقطاعيين وملاكي الاراضي شيوخاً وبيكَات وآغوات لمشروع المحتل ومشروع دولته
غير العادلة، التي ساهمت بشكل فعال في اضعاف بناء المجتمع وبالتالي تعطل نهضة
المجتمع وتشظي هويته الوطنية الى الحد الذي اضحت فيه هذه الطبقة عاملاً من عوامل
تعطيل تطور البناء في الدولة، وايضاً ساهمت في ضياع دَور البورجوازية الوطنية
المساهمة في بناء مجتمعاتها كما هو حاصل في بعض البلدان العربية.
* والأمر الآخر... وهو أمرٌ غريب، ان التخادم والتفاهم بين السلطة المعاصرة في العراق
والاوليغاركية الاقطاعية قد عمّقت في وصوليتها ورسخت جذورها في اعماق المجتمع
السياسي. الى الحد الذي بلغ بهذه الطبقة الى ان تتسلّل وتتمكن عوائلها خلال الخمسمئة
سنة المنصرمة من ان تمسك ببعض مقاليد العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
وان يتبوأ افرادها مناصب حزبية ووزارية ونيابية واقتصادية. الى الحد الذي مكنها من ان
تخلق نمطاً من انماط الزبائنية في الحكم وذلك من خلال استغلال الدولة وامكانياتها لتكون
في خدمة مصالح هذه الطبقة وليس العكس في خدمة المواطنين جميعاً.
هذا الأمر هو الذي ولّد مفهوم عوائلية الدولة، وليس وطنيتها، وهو في نفس الوقت مما صعّب الامر على قواها السياسية والوطنية والثقافية في ان تشارك في التنظيمات السياسية وان تعمل على تغيير اتجاهات الامور المتنوعة في البلاد.
ان الدَور المرتبك للعشيرة والدَور غير الواضح لرجل الدين والدَور المركّب للطبقة الاقطاعية، قد اضعف الكثير من مفاهيم الانتماء الوطني، وساهم في تشويه وحدته الاجتماعية وأبعد مفهوم الحرية ومثيلاتها من جادة الصواب، وساهم بشكل فاعل في خلق ثقافة القطيع بعد ان نجح في تسطيح روؤاه.
ان تطور المجتماعت الاوروبية حتى في امريكا اللاتينية ومناطق آسيوية عديدة.. قد ساهمت فيها العشيرة بعدّها اقدم وحدة للتماسك المجتمعي، حيث انها ساهمت في تراتبية تاريخية واخلاقية في حفظ صواب البُعد السياسي والاجتماعي والثقافي.
وقد كانت على الدوام عوناً للدولة، ان لم نقُل كانت هي نواتها، حيث نجحت فيها المؤسسات الدينية ورجالاتها في تكريس مفهوم العدل والاحسان والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وترسيخ مفهوم الدين على انه محبة وليس الدين بديلاً عن الدولة.
وقد تعاضدت كل من مؤسسة العشيرة والمؤسسة الدينية والطبقة البورجوازية ممثلة بالاقطاع في الحفاظ على مصالح الشعب ومصالح الاوطان والدولة حين ساهمت في ترسيخ مفهوم دولة المواطنة، وليس مفهوم العشيرة والطائفة والاقطاعيات. لأن غياب مفهوم روح المواطنة يعني التبشير بدولة الفوضى