الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المساواة‭ ‬والتفاوت

بواسطة azzaman

المساواة‭ ‬والتفاوت

محمد زكي ابراهيم

 

في‭ ‬حقبة‭ ‬ما،‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬لدينا‭ ‬يحلمون‭ ‬بالمساواة،‭ ‬ويتوقون‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬أكثر‭ ‬نعومة،‭ ‬ويتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬آخر،‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬غني‭ ‬وفقير،‭ ‬وكبير‭ ‬وصغير،‭ ‬ورئيس‭ ‬ومرؤوس،‭ ‬وقادهم‭ ‬هذا‭ ‬التفكير‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬ونظريات‭ ‬ونظم،‭ ‬أدخلت‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬لا‭ ‬أول‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬آخر،‭ ‬ونزاعات‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

‭ ‬وبحسب‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬فإن‭ ‬البشر‭ ‬يملكون‭ ‬إمكانات‭ ‬عقلية‭ ‬وجسدية‭ ‬وروحية‭ ‬واحدة،‭ ‬ولا‭ ‬يختلف‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬قليل‭ ‬أو‭ ‬كثير،‭ ‬فهم‭ ‬نسخ‭ ‬مكررة‭ ‬من‭ ‬بعضها،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬اختلفوا‭ ‬في‭ ‬الألوان‭ ‬والسحنات‭ ‬والوجوه‭. ‬وبالطبع‭ ‬فإن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬به‭ ‬عاقل،‭ ‬ولا‭ ‬يقر‭ ‬به‭ ‬منصف،‭ ‬فالاختلاف‭ ‬سمة‭ ‬جميلة‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬العيش،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬موجوداً‭ ‬لاختلقه‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬عدم‭.‬

وإنني‭ ‬لا‭ ‬أشك‭ ‬أن‭ ‬الارتباك‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬الأنشطة‭ ‬والفعاليات‭ ‬اليومية،‭ ‬والتباين‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬الفرص‭ ‬والخدمات،‭ ‬والدخل‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أسباب‭ ‬تخلف‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ومن‭ ‬أكثر‭ ‬دواعي‭ ‬نقمة‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬لكن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الناس‭ ‬متماثلين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬المساواة‭ ‬شعاراً‭ ‬رئيسياً‭ ‬من‭ ‬شعارات‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عام‭ ‬1789،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بحال‭ ‬من‭ ‬أهداف‭ ‬المحتجين‭ ‬حينما‭ ‬قاموا‭ ‬بالهجوم‭ ‬على‭ ‬سجن‭ ‬الباستيل،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬تطلعات‭ (‬البرجوازيين‭) ‬الإصلاحيين،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يملكون‭ ‬الأغلبية‭ ‬في‭ ‬البرلمان،‭ ‬متأثرين‭ ‬بذلك‭ ‬بأفكار‭ ‬عصر‭ ‬الأنوار،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬اتخذوا‭ ‬مقاعدهم‭ ‬على‭ ‬يسار‭ ‬رئيس‭ ‬المجلس‭ ‬وباتوا‭ ‬يعرفون‭ ‬باليسار‭! ‬وكان‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬أنجزوه‭ ‬هو‭ ‬تجريد‭ ‬الملك‭ ‬من‭ ‬سلطاته‭ ‬المطلقة،‭ ‬أما‭ ‬المحتجون‭ ‬فهم‭ ‬جماعات‭ ‬استغلت‭ ‬الانفراج‭ ‬الذي‭ ‬أحدثه‭ ‬الإصلاحيون‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬واشتبكت‭ ‬مع‭ ‬قوات‭ ‬الحكومة،‭ ‬وحينما‭ ‬هاجمت‭ ‬حصن‭ ‬الباستيل،‭ ‬فإن‭ ‬غرضها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إطلاق‭ ‬سراح‭ ‬السجناء،‭ ‬بل‭  ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬السلاح‭ ‬المخزون‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬المحتجزين‭ ‬في‭ ‬السجن‭ (‬7‭) ‬أشخاص‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬مازال‭ ‬الناس‭ ‬يظنون‭ ‬أنهم‭ ‬سعوا‭ ‬إلى‭ ‬إطلاق‭ ‬سراح‭ ‬المظلومين‭ ‬من‭ ‬معارضي‭ ‬السلطة‭!.‬

‭ ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬تخفيف‭ ‬حدة‭ ‬الفقر‭ ‬مهمة‭ ‬إنسانية،‭ ‬ومنح‭ ‬الجميع‭ ‬فرصاً‭ ‬متساوية‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬وتعليم‭ ‬وخدمات‭ ‬صحية،‭ ‬والمساواة‭ ‬أمام‭ ‬القانون،‭ ‬وفي‭ ‬التمثيل‭ ‬النيابي،‭ ‬دلائل‭ ‬على‭ ‬رقي‭ ‬المجتمعات‭ ‬وتقدمها،‭ ‬فمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬كفيلة‭ ‬بإشاعة‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬ومنع‭ ‬نشوب‭ ‬النزاعات‭ ‬واندلاع‭ ‬الثورات‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬العنف‭. ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬لدينا‭ ‬مراراً‭ ‬وتكراراً‭.‬

وكذلك‭ ‬فإن‭ ‬المساواة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الناس‭ ‬متماثلين‭ ‬في‭ ‬الدخل،‭ ‬لأنهم‭ ‬متباينون‭ ‬في‭ ‬القدرات‭ ‬والمعارف‭ ‬والخبرات،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المساواة‭ ‬تضرهم‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تنفعهم،وقد‭ ‬حدث‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬السابقة،‭ ‬فضاق‭ ‬بها‭ ‬الناس‭ ‬ذرعاً،‭ ‬وكرهوها،‭ ‬ثم‭ ‬استبدلوها‭ ‬بأنظمة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬التفاوت،‭ ‬وآية‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬الشركات‭ ‬العملاقة‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬رأسماليون‭ ‬كبار،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬من‭ ‬المجتمعات،‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬قوته‭ ‬وتماسكه‭ ‬وحيويته،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بالبناء‭ ‬والعمران‭ ‬والتصنيع‭ ‬والتحديث،‭ ‬ولا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬حاجز‭ ‬ما،‭ ‬بفعل‭ ‬اللوائح‭ ‬والأنظمة‭ ‬والقوانين‭ ‬الصارمة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تهيئ‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬للطاقات‭ ‬الشابة،‭ ‬ولا‭ ‬تقف‭ ‬بوجه‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يتقدم‭ ‬ويتطور‭ ‬وينمو،‭ ‬مثلما‭ ‬تفعل‭ ‬شركات‭ ‬القطاع‭ ‬العام،‭ ‬فالطموح‭ ‬إلى‭ ‬مراتب‭ ‬أعلى‭ ‬هي‭ ‬صفة‭ ‬إنسانية‭ ‬عظيمة،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تضمحل‭ ‬وتتلاشى‭ ‬بفعل‭ ‬التدخل‭ ‬الحكومي،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬علامات‭ ‬الضعف‭ ‬والوهن‭ ‬واللامبالاة‭ ‬ستدب‭ ‬في‭ ‬أوصال‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬محالة‭.‬

‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬المساواة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬تنمية‭ ‬حقيقية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬ملء‭ ‬حياة‭ ‬الأفراد‭ ‬بالثقة‭ ‬والوعي‭ ‬والاستقرار،‭ ‬وبدون‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يكونوا‭ ‬أنداداً‭ ‬لبعض،‭ ‬ولن‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬محنة‭ ‬التخلف‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭.‬


مشاهدات 113
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/10/09 - 5:56 PM
آخر تحديث 2024/10/15 - 10:51 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 377 الشهر 6764 الكلي 10036487
الوقت الآن
الأربعاء 2024/10/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير