في حقبة ما، كان الناس لدينا يحلمون بالمساواة، ويتوقون إلى حياة أكثر نعومة، ويتطلعون إلى مجتمع من طراز آخر، ليس فيه غني وفقير، وكبير وصغير، ورئيس ومرؤوس، وقادهم هذا التفكير إلى آفاق ونظريات ونظم، أدخلت البلاد في صراعات لا أول لها ولا آخر، ونزاعات لم تنته حتى الآن.
وبحسب هذا المفهوم، فإن البشر يملكون إمكانات عقلية وجسدية وروحية واحدة، ولا يختلف الواحد منهم عن الآخر في قليل أو كثير، فهم نسخ مكررة من بعضها، حتى وإن اختلفوا في الألوان والسحنات والوجوه. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لا يقول به عاقل، ولا يقر به منصف، فالاختلاف سمة جميلة من سمات العيش، ولو لم يكن موجوداً لاختلقه الناس من عدم.
وإنني لا أشك أن الارتباك الواضح في الأنشطة والفعاليات اليومية، والتباين الشديد في الفرص والخدمات، والدخل والعلاقات الاجتماعية، هي من أهم أسباب تخلف المجتمعات، ومن أكثر دواعي نقمة الأفراد على بعضهم البعض، لكن مثل هذا الأمر لا يعني أن يكون الناس متماثلين في كل شيء.
لقد كانت المساواة شعاراً رئيسياً من شعارات الثورة الفرنسية عام 1789، لكنها لم تكن بحال من أهداف المحتجين حينما قاموا بالهجوم على سجن الباستيل، بل كانت من تطلعات (البرجوازيين) الإصلاحيين، الذين كانوا يملكون الأغلبية في البرلمان، متأثرين بذلك بأفكار عصر الأنوار، وهم الذين اتخذوا مقاعدهم على يسار رئيس المجلس وباتوا يعرفون باليسار! وكان أهم ما أنجزوه هو تجريد الملك من سلطاته المطلقة، أما المحتجون فهم جماعات استغلت الانفراج الذي أحدثه الإصلاحيون في الشارع، واشتبكت مع قوات الحكومة، وحينما هاجمت حصن الباستيل، فإن غرضها لم يكن إطلاق سراح السجناء، بل الحصول على السلاح المخزون فيه، فقد كان عدد المحتجزين في السجن (7) أشخاص لا غير، ومع ذلك مازال الناس يظنون أنهم سعوا إلى إطلاق سراح المظلومين من معارضي السلطة!.
لكن الواقع أن تخفيف حدة الفقر مهمة إنسانية، ومنح الجميع فرصاً متساوية في الحصول على عمل وتعليم وخدمات صحية، والمساواة أمام القانون، وفي التمثيل النيابي، دلائل على رقي المجتمعات وتقدمها، فمثل هذه الأمور كفيلة بإشاعة الأمن والاستقرار بين الناس، ومنع نشوب النزاعات واندلاع الثورات القائمة على العنف. كما حدث لدينا مراراً وتكراراً.
وكذلك فإن المساواة الحقيقية لا تعني أن يكون الناس متماثلين في الدخل، لأنهم متباينون في القدرات والمعارف والخبرات، بل إن مثل هذه المساواة تضرهم أكثر مما تنفعهم،وقد حدث مثل هذا على يد الأنظمة الاشتراكية السابقة، فضاق بها الناس ذرعاً، وكرهوها، ثم استبدلوها بأنظمة قائمة على التفاوت، وآية ذلك أن وجود الشركات العملاقة التي يملكها رأسماليون كبار، في مجتمع من المجتمعات، دليل على قوته وتماسكه وحيويته، فهي التي تقوم بالبناء والعمران والتصنيع والتحديث، ولا تتوقف عند حاجز ما، بفعل اللوائح والأنظمة والقوانين الصارمة، وهي التي تهيئ فرص العمل للطاقات الشابة، ولا تقف بوجه من يريد منهم أن يتقدم ويتطور وينمو، مثلما تفعل شركات القطاع العام، فالطموح إلى مراتب أعلى هي صفة إنسانية عظيمة، يجب أن لا تضمحل وتتلاشى بفعل التدخل الحكومي، وإذا ما حدث ذلك فإن علامات الضعف والوهن واللامبالاة ستدب في أوصال الدولة لا محالة.
علينا أن ندرك أن المساواة الحقيقية هي في وجود تنمية حقيقية قادرة على ملء حياة الأفراد بالثقة والوعي والاستقرار، وبدون ذلك لن يكونوا أنداداً لبعض، ولن يتمكنوا من تجاوز محنة التخلف بأي حال من الأحوال.