كآبة ماركس
نوزاد حسن
هل من المعقول والمنطقي ان يصاب نبي من الانبياء بالكآبة والقلق؟اظن ان الاجابة الوحيدة التي لا تقبل نقاشا هي :لا.هذا امر مؤكد فالانبياء والرسل جميعا أقوى من ان يصابوا بمثل هذه المشاكل النفسية.ولو طرحنا السؤال بصيغة اخرى ونزلنا درجة واحدة في سلم العظمة وقلنا هل يستطيع احد ان يتخيل ,مجرد تخيل,ان كارل ماركس اصيب بكآبة حادة ومزعجة جدا؟ترى كيف سيكون موقف الماركسيين من طرح هذا السؤال.اخمن انهم سيجيبون مؤكدين حقيقة واحدة هي ايضا لا تقبل نقاشا.ماركس اقوى من ان يقع فريسة قلق عادي.انه اعظم واكثر صلابة من ان يضعف امام اي هاجس او خوف او انكسار.وهنا يصر اتباع ماركس جميعا على نفي لحظة ضعف فيلسوفهم نفيا قاطعا.فمثل هذا الفيلسوف الذي فهم الماضي والحاضر وتنبأ بحركة المستقبل لن يكون ضعيفا ومحطما كاي شخص آخر.هذا ما سيقوله محبو ماركس جميعا.
لنجاري المعجبين بماركس الى النهاية,ولنسالهم هذا السؤال:ما الغريب في اصابة ماركس بالكآبة؟لماذا يظن من يقدس ماركس بانه لا يلين بسهولة امام صعوبات الحياة.انا في الحقيقة احاول ان افهم كيف يستطيع الانسان صناعة فكرته والايمان بها الى حد السكر.ومثل هذا السكر يتحول الى قانون يخضع له الانسان خضوعا كاملا.وقضية كآبة ماركس هي احدى هذه الافكار التي لا تقبل اي نقاش.انا هنا اتحدث عن رأي المعجبين بهذا الفيلسوف العملاق,اذ لا يمكن ان يكون ماركس بكل ثقافته ووجهة نظره الثاقبة اسيرا لقلق يتعرض له اي برجوازي او رأسمالي.لذا ما يتعرض له البرجوازي والراسمالي هو امراض خاصة بهم لن تمس قلوب الماركسيين العاديين لو صحت العبارة ناهيك عن فيلسوفهم بكل عظمته.
ماركس ارفع جدا من ان يصاب بداء برجوازي او رأسمالي.انه مثقف عملي,ولاطلق عليه وصفي الشخصي الذي احبه وهو ان ماركس كان»الفيلسوف العامل».هذا الوصف يكفي ماركس كي يحصنه ويبعده عن عدوى كآبته النفسية.فهل هناك مجال بعد كل هذا للحديث عنه بطريقة تقلل من شأنه او تصوره على انه شعر بالتعب في نهاية المطاف واستسلم طائعا.
مشكلة كبيرة
لا استغرب كثيرا ان يكون ماركس فيلسوفا قلقا الى حد الانهيار,فهذا امر اجده عاديا جدا,وقد يجده غيري عاديا ايضا.المشكلة الكبيرة ان هناك من يعتقد ان القلق,والحيرة والشك والكآبة امراض لا بد من معالجتها.ومثل هذا التفكير الخاطيء هو ما يجب معالجته.لكن لنظل في قضية مؤسس الفلسفة الماركسية,وكيف يمكنني فهم صراعه النفسي.يبدو ان الكلب الاسود الذي كان يهاجم تشرشل ويقصد به نوعا من فقدان القدرة على العمل والكسل وانعدام الشهية كأن الحياة تختفي فجأة...هو بالضبط ما كان يعاني منه ماركس.وقد يكون هناك من العباقرة من تعرض لحالات نفسية مشابهة كفرويد مثلا والفلاسفة الوجوديين وكثير من الروائيين.وما يهمني في هذه النقطة هو ما تحدث عنه ماركس في رسالة مهمة جدا ارسلها الى صديقه انجلز.رسالة ماركس مهمة لانها تضع الباحث امام حقيقة لا بد من دراستها.
يعتقد ماركس انه تجاوز المنطق والتفكير المثالي حين قدم فلسفة لا تؤمن الا بالمادة التي يراها تسبق الوعي.هذه الفكرة هي ضد الفكرة المثالية التي ترى ان الوعي يسبق المادة.الوعي او العقل كما يفهمه ماركس هو نتاج تطور استغرق الاف السنين حتى وصل الى ما هو عليه.الوعي مادي ومعقد وليس فيه اية بقايا مثالية.ومع الاسف لم تشغل هذه النقطة الباحثين ممن كتبوا عن ماركس.ان ايزايا برلين مثلا يرسم صورة لماركس تحولت كما اعتقد الى بديهيات مشوقة عن الفيلسوف الكئيب.لكن ايزايا برلين وهو في رايي افضل من كتب عن ماركس لم يشر الى علاقة ما بين تفكير ماركس المادي وبين انفعالاته التي تصل الى حد ترك اثار جسدية عليه.وما ينبغي ان نلاحظه هنا هو كيف يمكن لطبيعة العقل المادية الخالصة ان تتسلل اليها لحظات كئيبة لا مجال للخلاص منها.لنقرأ رسالة ماركس التي اشرت اليها سابقا التي ارسلها لانجلز.يقول ماركس فيها»ارق,فقدان للشهية سعال شديد,ومعاناة من سويداء عميقة لها سوراتها العنيفة من حين لاخر على منوال دون كيشوت الكبير”(1)
يترجم جورج طرابيشي حالة ماركس بانها سويداء عميقة,وحسب تعريف غوغل فان السويداء العميقة هي متلازمة اكتئابية محددة تتمثل بحالة مزاج سوداوية ودرجة من الحزن العميق والأسى وفقدان الأمل، وعدم القدرة على الاستمتاع بالنشاطات المختلفة. اظن ان رسالة ماركس هذه ستكون مفاجأة غير سارة لمحبيه.وعلى اية حال فان ماركس وانجلز كانا مثقفبن غريبين اذ كافحا على ان يكونا امينين لوجهة نظرهما المادية,وانكار اية ظواهر تدل على وجود الروح او النفس.ما يشغل هذين المنظرين هو عدم خيانة المبدأ الفلسفي الالحادي الذي يجعل المادة هي كل شيء في هذا العالم.فالقوانين كلها محصورة في نطاق هذا العالم,ولا يوجد خلف هذه الاشياء اية روح او فكرة مطلقة.ومن يقرأ كلمات انجلز وهو يقف على قبر ماركس ويرثيه سيعرف جيدا معنى ان يكون المفكر وفيا لفكرته عن الحياة المادية التي لا ترتبط باي معنى خارجها(2).وقد احسست وانا أقرأ رثاء انجلز لرفيق رحلته ان الاخير كان يتحدث عن آلة معقدة الصنع توقفت عن العمل.
هذا ما اوحته لي كلمات انجلز.من هنا ينبغي ان نفكر جديا ان الماركسي كما يريده ماركس هو ذلك الشخص الذي يتشبع بثقل المادة وما تتكون منه من عناصر.وهذا الموقف الفلسفي يقود صاحبه الى فهم يختلف عن فهم المثاليين.لكن السؤال الاهم.هل بقي ماركس وفيا لماديته ونظرته الفلسفية التي جعلته يقول بجرأة كبيرة انه اعاد هيجل الى وضعه حين قلبه راسا على عقب؟
هذا السؤال جوهري ويفتح بابا للجدل في محاولة بسيطة لفهم كيف يمكن ان يقع ماركس في خطأ كبير حين تحدث عن كآبة قوية تحاصره وتمنعه من ممارسة حياته.فاذا كانت طبيعة عقلي مادية ومكونة من ذرات,ونشاط داخلي مادي يرتبط بالاشياء من حولي فكيف يمكن ان تحس المادة بانها مكتئبة,وانها حزينة وغير قادرة على العمل؟ان العقل كما يراه جميع العقلانيين اي المومنين بقدرة عقولهم على تفسير العالم يضعون الاشياء تحت مجهر البحث العلمي لفهم الظواهر.وهذا العقل المادي هل يتوقف ليقول انا مصاب بالكآبة والاعياء وانعدام الرغية.لا اظن ان العقل المادي يحس بشيء مما تحدث عنه ماركس.وانطلاقا من هذا اليقين فان من حق اتباع ماركس ان ينفوا عنه هذه الاعراض التي تحدث عنها.من حق المقلدين ان ينظفوا صورة فيلسوهم او رمزهم سواء اكان ماركس ام غيره.ومن حقهم ايضا ان يجعلوه فوق النقد والمساءلة.لكن البحث,والدراسة تقول لنا غير ذلك.ان رسالة الفيلسوف الكبير الى صديقه تكشف عن حقيقة مهمة وهي:ان العالم المعقد من حولنا يجعل العقل محتارا في السيطرة على الواقع كما هو.العقل يريد فهم وتفسير الظواهر لتقديم حلول واقعية لها.هذه هي مهمة العقل.ولا يمكن ان يعرف العقل شيئا عن الكأبة او القلق.واذا كان العقل ماديا كما يقول ماركس فنحن اذن محصنين جيدا ضد اي ضعف انساني.فكيف سنفهم رسالة ماركس وحديثه عن كآبته كما وصفها.اظن اننا امام قصة كبيرة بكل ما في الكلمة من معنى.قصة تلخص وتصور حكاية الانسان وقدرته على صناعة افكاره واوهامه.وماركس ليس استثناء من هذا.ان اتباع اي فيلسوف يستطعيون ان يصنعوا من معبودهم وزعيمهم نموذجا في كل شيء.فهو اي الرمز عميق ومتامل ولا يخطيء ويتنبأ ويكشف ويعلم الحكمة وخالد الى الابد.هذه التصورات تخص المقلدين والاتباع بكل تاكيد.وليس بالضرورة تكون منطبقة على ماركس او غيره.ومع ذلك فهل لدي تفسير قريب من واقع حياة ماركس لكآبته التي ينفي اتباعه انه كان مصابا بها.التفسير الذي اميل اليه هو منطقي جدا ومقبول ايضا.وربما تكون طريقتي او حدود فهمي لا تتفق مع اسلوب تفكير الاخرين.القصة كلها تحدث بهذا الشكل:التفكير المادي او التفكير المثالي كلاهما يبالغ في تقديم صورة للعالم ولنهايته المحتملة.فيما يخص ماركس فالرجل بقي عقودا يفكر ويتامل ويقدم نفسه على انه مفكر مادي ملحد.هذه ليست وظيفة تتعلق بمثقف يكتب يوميا للجمهور.مشكلة ماركس انه كان ماديا وعلى المادة الا تسمح لاي شيء غير مادي ان يختلط بها.كان ماركس متنبها جدا لقضية كونه مؤلف من ذرات وعناصر كيمائية خالية من اي شيء روحي.هو تركيبة اصبحت بعد قرون طويلة من التطور هذا الفيلسوف الذي يفكر.فلا يجوز له ان يسهو ثانية واحدة فتنطلق اشارة تقول لقد خان ماركس تفكيره,وها هو بدأ يتكلم ضد ما اعتقده.اظن ان هذه هي معركة الفيلسوف الكبيرة:عدم خيانته لطريقة تفكيره.ومن يقرأ حديث ماركس الطويل عن السلعة سيعرف بشكل واضح هم هذا المفكر.انه عقل مادي يتكلم.لكن هذا الرجل الكبير في النهاية واجه احساسا غريبا عليه.وليس من حق المادة ان تتعرض له.كل هذه الانطباعات الحسية التي تحدث عنها في رسالته تجعلنا نفكر بان هذا الكائن الفيلسوف تعرض لصدمة كبيرة,واحس بتعب غريب خارج حدود عقله.فهل هناك مناطق في العالم لا يملك العقل السيطرة عليها.وهل هناك تفاصيل يواجهها عقل الانسان ثم يكتشف هذا العقل بانه غير قادر على جعلها واضحة امام الناس جميعا.كم كنت اتمنى لو تقابل ماركس وبوذا في يوم ما.ترى كيف سيكون نقاشهما,وحوارهما الذي يمثل كل طرف فيه وجهة نظر تختلف كليا عن وجهة نظر الاخر.ان التفكير العقلاني لا ينسجم كما اظن مع بناء الحياة.وهنا جاء ماركس وقدم لنا تفكيرا ماديا خالصا لهذا العالم.وكان يحاول ان يقنعنا باننا اخوة نشاركه ما يقوله عن حدود العالم وقدرة العقل المادي على اكتشاف الحقيقة.لقد نفى ماركس الروح ووضع بدلا منها المادة لكن هذه الروح المنفية حاصرت ماركس في الحادي من اذار عام 1882 وظهرت على شكل كآبة مزعجة جدا.فهل اكتشف ماركس ان مادية جسده غير صافية,وانها مزيج من عناصر اخرى ليست مصنوعة من المادة.
1-الماركسية والجزائر,ماركس وانجلز,ترجمة جورج طرابيشي,دار الطليعة,بيروت,طبعة اولى 1978,ص 85.
2-مختارات ماركس وانجلز,جزء ثالث,دار التقدم,1970,ص135,136,137