القاهرة – محمد الحمامصي
نحن أمام كتاب بمثابة وثيقة تاريخية تثير الأسئلة الشغوفة أكثر مما تهدف إلى تثبيت حقائق، فالكاتب العراقي كرم نعمة في كتابه الجديد ”أغان من فضة: الغناء العراقي بوصفه مؤرخا” الصادر مؤخرا عن دار لندن للطباعة والنشر، يجعل من الأغاني وثيقة تعبر عن أحوال العراق آنذاك من دون أن يغفل علاقة ذلك بالمحيط العربي.
على مساحة أربعة فصول يعرض لنا المؤلف صورة تاريخية عما أسماه “جيل البناء الصعب” المؤسس للأغنية العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي، ثم “أغنية البيئات” وهي مرحلة توهجت فيها الألحان والأغاني العراقية ما بين ستينات وسبعينات القرن الماضي، ويخصص فصلا للفنان كاظم الساهر بوصفه جائزة ترضية لكل العراقيين وعليهم الحفاظ عليه كنجمة رابعة في علم العراق الوطني، يقدم فيه قراءات نقدية لألحانه وطبيعة أدائه، ويحاوره في أسئلة جادة تبدو غائبة اليوم عن المادة التلفزيونية التي تحتفي بالفنان كاظم الساهر.
لا يغيب الغناء العربي عن متن هذا الكتاب الذي يمتد على مساحة 207 صفحات من القطع الكبير، ويختار له فصلا يسميه “ثقافة المركز والأطراف” يرى فيه أن السطوة الإعلامية للغناء المصري حرمت الغناء العربي على مدار عقود من الوصول إلى الجمهور ما بين المشرق والمغرب العربي، ويتساءل كم عبد الحليم حافظ يوجد اليوم في مصر؟ ويجيب بأن هناك أكثر من عبد الحليم فمصر بطاقتها السكانية والابداعية الهائلة قادرة على الإنجاب والتجدد، لكن تراجع سطوة ثقافة المركز على الأطراف جعلت من مطربي مصر اليوم لا يلقون نفس التأثير الذي كان سائدا منذ خمسينيات القرن الماضي حتى كسره مقتل حارس البوابة، والانفتاح الرقمي الذي جعل أغاني المشرق والمغرب العربي تصل من دون أن تمر على القاهرة، كما كان يحدث من قبل.
يقول كرم نعمة الذي يمتهن الصحافة منذ أكثر من أربعة عقود وشغل إدارة تحرير صحيفتي “الزمان” و”العرب” في لندن “يمكن أن نقول إن الغناء أشد المؤرخين إخلاصاً على مر التاريخ، أنه يعبر عن الأرواح الساكنة والهائمة في المجتمعات، وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ العراقي، فأن العراقيين يختلفون على كل سردياته، لكن أغنية لناظم الغزالي تجمعهم معاً، وذلك يفسر لنا أيضاً لماذا تحول كاظم الساهر بمثابة الجائزة الكبرى حيال الخسائر السياسية والاجتماعية التي توالت على العراقيين”.
ويجد في الموسيقار العراقي اليهودي صالح الكويتي قبل أن يهاجر إلى إسرائيل تحت ضغط زوجته وأسرتها عام 1951، ولم يكن راغبا بترك بلده وعمله الفني آنذاك. الصانع التعبيري الأمهر في جيل البناء الصعب للغناء العراقي. ويحصل مؤلف كتاب “أغان من فضة” على عشر ساعات صوتية من شلومو نجل الفنان صالح الكويتي يتحدث فيها عن سنواته الموسيقية في العراق قبل وفاته عام 1986 في إسرائيل. ويعد صالح الكويتي أول من ساعد على نقل مقام “اللامي” العراقي إلى الأغنية المصرية عند زيارة الفنان محمد عبد الوهاب إلى العراق عام 1932، حيث تعاون مع الفنان صالح الكويتي في حفلات ما بين بغداد والبصرة، وأعجب جدا بأغنية “ويلي شمصيبة” التي لحنها صالح على مقام اللامي لصوت منيرة الهوزوز في أول الأمر ثم اشتهرت بالأداء المشترك لناظم الغزالي وزوجته سليمة مراد.
وعندما عاد عبد الوهاب إلى مصر استوحى هذا المقام الذي أول من وضع اصوله الموسيقية الفنان العراقي محمد القبانجي” في لحنه الشهير لأغنية “يلي زرعتو البرتقال” لتكون أول أغنية مصرية على مقام اللامي العراقي.
وكان عبد الوهاب زار العراق وقدم عدة حفلات وشاركه صالح الكويتي في العزف على الكمان مع أغنية “خدعوها بقولهم حسناء”.
كما أن أم كلثوم أعادت غناء لحن صالح الكويتي لصوت سليمة مراد “قلبك صخر جلمود” عند زيارتها إلى بغداد عام 1935. ويؤكد صالح الكويتي أن أم كلثوم أعادت أداء الأغنية نفسها بعد عودتها إلى مصر. لكن لا أحد يؤكد اليوم وجود تسجيل لهذه الأغنية بصوت أم كلثوم. في تناول السيرة اللحنية ما يمكن أن نسميه مؤسس الغناء العراقي الحديث، تحضر سليمة مراد زوجة الفنان ناظم الغزالي، بوصفها المعادل الغنائي للفنانة المصرية ليلى مراد، فالفنانتان من جيل واحد، وهما يهوديتان رفضتا الهجرة إلى إسرائيل.
ينقل كرم نعمة في كتابه عن شلومو نجل الفنان صالح الكويتي، عندما التقاه في لندن، أن الفنانة سليمة مراد رفضت الهجرة إلى إسرائيل مع والده وقالت له “لمن أغني في إسرائيل، حياتي في العراق مع جمهوري، ولا حياة للفنان من غير جمهوره”. ويمكن أن نجد ما يماثل ذلك في سيرة الفنانة المصرية ليلى مراد. وتعد الفنانة العراقية اليهودية سليمة مراد من أجمل الأصوات في الثلاثينات حتى وفاتها بداية السبعينات من القرن الماضي وغنت ألحان صالح الكويتي وعباس جميل وتزوجت من الفنان ناظم الغزالي.
يذكر كرم نعمة تأسيسيا على التسجيلات التي بحوزته للفنان صالح الكويتي المولود عام 1908، أنه لحن أكثر من 500 أغنية لأصوات عراقية وعربية مثل صديقة الملاية ونرجس شوقي ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وسليمة مراد وعفيفة اسكندر.
لم يتوقف صالح الكويتي رغم السنوات التي عاشها في إسرائيل إلى حين وفاته عام 1986، عن التعبير عن خصوصيته العراقية، وفي كل الحوارات التي أجريت معه كان يقول انه خدم العراق بكل ما يملك من قدرات، معتبرا ذلك من واجبه ومعبراً عن اعتزازه بتلحين أناشيد وطنية عن تتويج ملوك العراق وتقديم الحفلات في المناسبات الرسمية والدينية اليهودية والإسلامية.
ولقب الفنان العراقي بالكويتي من مصادفة ولادته في مدينة الكويت آنذاك، حيث كانت أسرته من يهود مدينة العمارة في جنوب العراق وتتنقل إلى البصرة والكويت للمتاجرة باللؤلؤ مع الهند عن طريق الخليج العربي.
ونجحت ألحان صالح لصوت زكية جورج وهي مطربة سورية عاشت أروع مجدها الفني في بغداد وكان من أشهرها “آنه من اقول آه وتذكر أيامي” كما لحن لها قصيدة الشاعر الهندي طاغور “يابلبل غني” التي ترجمها جميل صدقي الزهاوي إلى العربية.
يرى كرم نعمة أن صالح الكويتي توج تلك التجربة الفريدة في الغناء العراقي عندما اختار مقام “الصبا” في أغنية ليس بمقدور الغناء العراقي أن يكررها كما فعل ملحنها صالح ومغنيتها زكية “أنا من أقول آه وأتذكر أيامي”. تلك فاصلة لامعة في الغناء لا يمكن أن تصدأ بعد أن مر عليها أكثر من ثمانين عاما.
في قراءة نقدية مهمة لتجربة الفنان ناظم الغزالي يرى كرم نعمة أنه لا يمكن رسم مقطع تاريخي للغزالي بعد عقود على رحيله، من دون أن يحظر ملحنه ناظم نعيم، لأنه في كل الأحوال ستكون “الرسمة التاريخية” غير جديرة بالوفاء، تصل متأخرة ومكررة ككل ما كتب عن ناظم الغزالي في الصحافة العراقية، ولنا أن نتخيل الصورة الشائعة عنه في الكتابات العربية.
ويكتب “تبدو ذاكرة المستمع العربي أكثر حساسية من كل ما كتب عن الغزالي، لأن العربي يحبه كمغن معبّر ويربطه بالعراق وابن الحمولة وهدية العيد، وجسر المسيب، بل إن رجل دين ليبيا مثلا كان يتحدث في منتصف التسعينات في محاضرة عن تلاوة القرآن الكريم، لم يتردد بالقول إن أداء ناظم الغزالي للمقامات يكاد يقترب من (التلاوة)، وهو صادق في ذلك لأن المقام العراقي يؤدى ولا يغنى. واليوم بعد خمسين عاما على رحيل السفير الأول الغناء العراقي، يبدو ناظم نعيم الذي لحن غالبية ما غناه الغزالي ورافقه في أسفاره، يبدو شاهدا بامتياز على تجربة هذا الفنان الذي يرتبط اسمه عند المستمعين العرب بالعراق، وعند العراقيين بزوجته الفنانة سليمة مراد”.
المساحة التاريخية لحياة الفنان ناظم الغزالي تمتد على مسافة 42 عاما “1921 – 23 أكتوبر 1963” وإذا افترضا أنه قضى عشرين عاما منها في الفن، فستكون كل الخلاصات المروية والمكتوبة قد أشبعت بالتقصي، وعلى مستوى آخر فاق الإعجاب بغنائه أي محاولة نقدية لتحليل أبعاد صوته، وحتى من قبل الملحنين والكتاب الذين عاصروه، لماذا؟ لأن ناظم الغزالي كان فنانا إنسانيا خلوقاً محبا لكل المحيطين به، فغلبت سمعته الشخصية الطيبة على قيمة فنه، فهذا البغدادي الذي ولد فقيرا وعاش في كنف عمه ثم عمته وخالته بعد وفاة أمه وعمل في معمل للطحين، لم تغيره الشهرة التي نزلت عليه بأقصى مما كان يحلم به، وبعدها زواجه من فنانة كانت شاغلة الطبقات السياسية والعائلات العراقية حتى أطلق عليها سليمة باشا بدلا من سليمة مراد. وتحول بيتهما في منطقة السعدون ببغداد إلى صالون ثقافي يحضره الأدباء والشعراء والفنانون.
وهكذا يثير فصل “جيل البناء الصعب” في كتاب “أغان من فضة” الحنين إلى غناء عراقي ملتاع، يعرض فيه كرم نعمة لأبناء هذا الجيل، فالموسيقار سلمان شكر (1921 – 2007) من الرعيل الأول في جيل البناء الصعب في التأسيس للموسيقى العراقية، وكان من أقرب طلاب الشريف محي الدين حيدر في معهد الفنون الجميلة في سنة تأسيسه الأولى. وكان بمثابة “فيلسوف العود” في استعادة الموروث الموسيقي العراقي، لذلك ألف قطعاً موسيقية باهرة امتازت بحسها الصوفي مع إضفاء مسحة معاصرة عليها، وبخصوصية لا يمكن إلا أن توجد في عزف سلمان شكر وحده.
بقي مخلصاً لمدرسة بغداد للعود، فلم يصاحب في العزف مع أي مطرب، واكتفى بمؤلفاته الموسيقية وعزفه المنفرد.
أما جيل “أغنية البيئات” الممتد منذ منتصف ستينات حتى ثمانيات القرن الماضي، فكان بمثابة تجريب لحني وأدائي باهر، لكن من سوء حظ تاريخ الغناء العراقي لم يصل نتاج هذا الجيل كما ينبغي إلى المستمع العربي، بينما تعاد اليوم عشرات الأغاني لملحني جيل السبعينات بأصوات عراقية وعربية شابة، وتلك فضيلة البث الفضائي المفتوح.
يخصص كرم نعمة في كتابه فصلا كاملا عن تجربة الفنان كاظم الساهر كما يطلق عليه الأسئلة الأهم في حوار مطول. ويطالب العراقيين المحافظة على هذا الفنان الذي يسميه النموذج الفني والوطني الذي بقي يجمعهم بعد أن فرقتهم التسميات الطائفية والعشائرية والقومية وجعلت الوطنية هامشا لها. وينقل عن الساهر قوله إن الفنان محمد عبد الوهاب قدم له شكره بعد سماع أغنية “ياصديقي” واصفا إياه بخليفة ناظم الغزالي الحقيقي. ويقول “لنتعامل مع الفنان الكامن في الساهر بعد أن نقل غناءه إلى آفاق لم يسبق أن وصلها أي فنان عراقي، ونحلل ألحانه إذا اكتنفها شيء من الضعف وتراجعت موسيقاه عن التعبيرية، لنقول رأينا بإخلاص بشأن أدائه واختياراته للنصوص، وبدافع الحفاظ على غناء الساهر الذي يتولّه به الملايين”.
ويكتب كرم نعمة في مقدمة حوار مطول مع الساهر يعد مثالا للتعريف به وبثقافته اللحنية “بدا لنا كاظم الساهر متوهجا وهو ذلك النجم الذي يختزن في ذاكرته ووجدانه عشرات الأفكار والمشاريع التي تولدت لديه من رحلات طوال. جاب خلالها مدنا وأقاليم وأصغى له مستمعون ومشاهدون استمتعوا بفنه وأعجبوا به حد الدهشة، طربوا ورقصوا وغنوا معه ولبلده الكبير حين قدم بحس عراقي أصيل شيئا من روحه وفنه وموهبته التي أودعها الله فيه وصقلها الساهر بالمران والتدريب والإخلاص بكل ما أوتي من قوة”.