علاقتي مع توما توماس ولعبة الشطرنج
نبيل يونس دمان
منذ تفتحت مداركي على الحياة، اعجبت بهذا الانسان، كنت اسمع في بيتي عبارات المديح به، في صيف 1963 هرب رجال بيتنا امام هجوم كاسح للحكومة الى الجبل، وعند رجوعهم تحدثوا عن بطولة توما توماس وتصديه للمرتزقة من موقع في وادي (بسقين) حيث مقر الثوار آنذاك. صرت انظر اليه والى رجاله نظرة متأثرة وفيها المزيد من الاعجاب بهم وبكل ما يمت بالسلاح والمقاومة من صلة، واصبحت اقتفي اثرهم اتكلم معهم، ألتقي بهم على الطبيعة المحيطة بالقوش، او بزيارات بعضهم الى بيتنا منهم: الشهيد سعيد عيسى شاجا، والشهيد هرمز قمصو، والشهيد موفق زوما.
عام 1969 عندما طوقت القوش من كل جوانبها، على اثر اخبارية من عملاء السلطة المحليين، للقبض على توما توماس. عشت يوما كاملاً وانا قلق على مصيره، اتذكر جيداً اني رفعت صوتي عالياً من شرفة بيت عمي منددا بالمهاجمين، وصادف مرور مجموعة منهم في الزقاق المقابل لبيت الياس بولا، ظن اهلي انهم سمعوا الصوت، فاسكتوني وادخلوني الى داخل الغرفة، في ذلك النهار من يوم 28- تموز 1969 نجى ابو جوزيف بإعجوبة.
بعد بيان 11 آذار 1970 صار بإمكان توما توماس التواجد في مقهى 14 تموز في وسط سوق البلدة، على الدوام اسمع ان الثوار مولعون بلعبة الشطرنج، وقد كنت تعلمت مبادئ اللعبة عام 1968 في المركز الثقافي السوفيتي الكائن في شارع ابو نواس. جلب انتباه ابا جوزيف اجادتي للعبة الشطرنج وكانت آنذاك شبه معدومة في القوش، وكنا نسمع من سجناء سابقين صنعهم لقطع الشطرنج من لب الصمون، حتى احد الثوار واسمه حبيب جيجو اخبرني في حينها ان الشطرنج الذي تدرب عليه كان مصنوعا من الطين، سالني ابو جوزيف يوما في مقهى بتي دكالي ان كنت مستعد للعب الشطرنج؟ قلت: نعم بخجل، ولكن في داخلي فرحت كثيراً، تطوع احد حراسه بالذهاب الى بيته لجلب قطعة الشطرنج الانيقة لنلعب، وهو قائد الانصار ومحبوب الجماهير وانا الشاب المقبل على الحياة، فكان جمع غفير من مختلف الاعمار يرقب مباراتنا، وقسم منهم يرسل اشارة او يلفت انتباهي بطريقة لا تخلوا من الطرافة (دير بالك تغلب ابو جوزيف) وللحقيقة كان يغلبني على الدوام ولكن عندما يكون مشغول الفكر او مهتما بشيء لا اعرف كنهه، كان يخسر امامي. عندما تعذر عليه الحضور الى المقهى بسبب ضغوطات سلطة البعث واجهزته البوليسية، كنت اذهب الى بيتهم في الليل للسلام عليه، ثم يبادرني بالقول « هل انت مستعد للعب الشطرنج « اقول نعم على الفور. وهكذا واصلنا هوايتنا حتى وادي كوماته على الحدود العراقية- التركية في بداية الثمانينات.
اعتداء جسدي
عندما تعرضت الى اعتداء جسدي من مرتزقة البعث في صيف عام 1976، اخذني خالي يونس اودو الى توما توماس في بيته، فتألم كثيرا وهويراني مثخناً بالجراح، قال لنا «انهم مدفوعون من مسؤول البعث في القوش المدعو ابراهيم الجبوري (ابو يعرب)» واقترح ان اتقدم بشكوى ضدهم الى مركز الشرطة، كنت آنذاك مكملاً في السنة الاخيرة من كلية الهندسة، ولم أرد ان أظهر في قسم الشرطة شاكياً او مشتكيا تجنبا للمزيد من المشاكل واعتقادي بان نفوذهم في كل مكان وكل زاوية ولن اكون الا خاسراً في جولة اخرى، لتلك الاسباب آثرت السكوت على مضض وجرعت آلامي حتى اليوم وانا اكتب هذه الاسطر، في ذات الوقت تعهدت امام نفسي ان لا اغادر البيت لأواجه المجتمع، بل اعتكفت في تحضير دروسي والتهيئة الجيدة للدور الثاني، حتى استلمت نتيجتي في الاختبار بالنجاح والتخرج مهندساً، فرددت مع نفسي انه الرد الاول على اعدائي.
في عام 1977 انتدبت من جندي معمل تصليح الدبابات في معسكر التاجي ببغداد الى مهندس في مديرية الطرق والجسور/ نينوى، في اول عهدي بالموقع المشرف الجديد الذي بلغته، بالطبع لم اكن املك سيارة ولم تخصص الدائرة سيارة تقلني بعد، في ذلك الوقت كانت تسري علي قوانين وضعها حزب البعث في ابعاد اي نشاط او اتصال بالمعارضة من داخل الجيش، والا كانت المواد القانونية جاهزة لتطبيق احكام الاعدام كما شهدت اعوام 1976- 1978 حالات اعدام للعناصر الديمقراطية في ظل التحالف الجبهوي. كنت انتظر مع جموع الطلبة والموظفين في الصباح باص المصلحة ويصادف احيانا مرور سيارة توما توماس نوع (فولكا) ، ويكون بجانبه رجل اسمه جرجيس عيسى قس دنو الذي سرعان ما ينتقل الى المقعد الخلفي، ويناديني ان اصعد واجلس بجانبه، وانا اكتم قلقي من جلب انتباه اجهزة السلطة البوليسية في القوش، حتى يوصلني امام دائرة الطرق والجسور في الجانب الايسر من دجلة. نسبتني مديرية طرق نينوى في شخص مديرها المهنس فاروق عبد القادر الى هيئة مشروع طريق أم الشبابيط- بارا- ام الذيبان الذي يمر من ناحية سنوني خلف جبل سنجار، وهي بالطبع منطقة حدودية مع سوريا، في احد الايام جمع عمال الطرق مناشير للمعارضة العراقية في تلك الاقصاء، فاردت الاحتفاظ ببعضها، فمنعني المهندس الاقدم عارف علاوي، وقال يا استاذ لقد اعتدنا ان نحرقها وهكذا كان، ولكني استطعت الحصول على نسخة اضافية من العمال اخذتها معي الى القوش سراً، وذهبت في جنح الظلام الى بيت توما توماس لاسلمها له، ورويت له كامل القصة فقال: حسناً فعلت.
في منفاي القسري في اقصى جنوب الجزيرة في اليمن انقطع اتصالي به لوجوده في كردستان، لكنني كنت مواظباً على مراسلة ولده سمير (حكمت) طوال سبعة سنوات امضيتها مع عائلتي في اليمن، ولكن حال وصولي ارض الولايات المتحدة الامريكية فتحت علاقة تبادل الرسائل بيننا.
اما علاقتي بزوجته المناضلة الماس حسقيال زلفا (ام جوزيف) فقد كانت علاقة قربى اساسا، حيث جدتها حبوبة دمان هي عمة والدي لذلك كانت تناديني بابن الخال، توثقت علاقتنا الاسرية في الجبل عندما كان سكناي وعائلتي في وادي كوماته على الحدود قريبا فكنا نتبادل الزيارات او نتجمع فنجلس على الطبيعة الخلابة التي حباها الله لتلك المنطقة التي فرض عليها الحصار العسكري والاقتصادي الشديد من الحكومتين العراقية والتركية.
سفرات مشتركة
في سوريا تواصلت علاقتنا في اعوام 1983 و1987 كنا نخرج في سفرات مشتركة او نحضر مناسبات وطنية او نجلس نتحدث طويلا عن البلدة والجبل واحاديث الانصار، من عندها اعادت الى اسماعي المعارك الباسلة التي خاضها ابو جوزيف والمواقف الصعبة التي تعرض لها وواجهها بحكمة وصبر.
كنت في اميركا عندما ورد خبر وفاتها، فحزنت كثيرا واعتبرت ذلك بداية النهاية للمناضل الكبير الذي لم يعش بعدها سوى خمس سنين ورحل هو الاخر. في كانون الاول 1991 كتبت رثاء لها في جريدة صوت الاتحاد الديمقراطي العراقي بعنوان (مهلاً ايها الموت) اليكم نصه:
جسد ام جوزيف الطاهر
وقلبها الجسور
يعود للركون
ويخيم الصمت والسكون
مهلاً ايها الموت!
انت كالح ممقوت!
كوجه الطاغوت!
فطريقها زهور وورود
ومحطتها مجد وخلود
امسك قلمي ليطاوع الحسرة والمرارة اللتان تعنصران قلبي ليكتب عن انسانة بطلة وشهمة يفتخر بها الوطن وتفتخر بها نساء كردستان، اكتب عن ام جوزيف، الام والزوجة والرفيقة التي رحلت عنا في غفلة من الزمن على ارض حدودية تتوقى العودة، وطالت العودة، ولم تكتحل عيونها برؤية الوطن الديمقراطي الحر.
ماذا اكتب عنها، لقد احدث فقدانها جرح كبير لن يندمل، لقد اعطت وصمدت امام فواجع الدهر وذبل جسدها رويداً رويدا حتى انطفأ، ماذا اكتب عن ام كل من عرفها وعايشها، انسانة رقيقة القلب، ساطعة الذكاء، عميقة الذكرى، بطلة في مواجهة الصعاب، اعطت دروساً كثيرة تعلمناها منها، فكانت في حياتها المعذبة مسيرة كاملة.
يا ام جوزيف.. بك نتفاخر واسمك يتمجد يا ايتها السائرة الى اللّالقاء!؟ اهكذا كان عهدنا بك؟ ام كان ينبغي اللقاء عند الأحبة بعد رحيل طاغية العراق.
وانت يا ابا جوزيف.. صبراً وسلواناً وانت تفقد ظهيرك الشجاع وامينة اسرارك.
وانت يا مدينتها.. اليك هذا الخبر المفجع في غير اوانه الذي جاء من ارض غير ارضك وحصل في طقوس ليست طقوسك، لك عزائي من اجل ان تنهضي وان يظل اسمك لامعاً بين الاسماء الرافضة للذل والتواقة للحرية.
وانت ايها الوطن الحبيب.. لازلت تنزف دماً وتتعمق جراحك وتزداد محنتك، اناديك ان تحرك احجارك لتنتقم من مسببي المحن للشعب ، فاليوم يا وطني تموت ام جوزيف في المنفى وقبلها مات الكثيرون وهم يتحسرون لاديمك، ايها الوطن العظيم.. بلغ نهريك الخالدين ان يحملوا ذكرى من عشقوا الارض والحياة ويبلغوا كل المدن والقرى عمّن ماتوا وعيونهم مشدودة اليك.
ان المثل والاهداف والآمال التي ارتسمت على محيا فقيدتنا لن تخبوا وستحملها وتسير اجيال واجيال نحو ذرى المجد والحرية.. ستتجدد آمالها في ابناء وبنات مدينتها وكل عراقي عرفها من شماله وحتى جنوبه، وكل من سمّاها، بحق امه واخته ورفيقته.
* موضوع من كتابي الصادر هذا العام 2024 (توما توماس... القائد والانسان)