طنجة تكرّم شاكر نوري وتقيم معرضاً للوحاته
رحلة السارد البصري عبر عوالم متداخلة بين الكلمة واللوحة
طنجة - نعيم عبد مهلهل
للفترة من 26 تموز الى 20 أب الجاري كرمت مدينة طنجة المغربية الروائي والتشكيلي العراقي شاكر نوري المقيم في أمارة دبي ، بأقامة معرضه الشخصي الأول والموسوم (الروائي والفنان شاكر نوري ـــ السارد البصري ) في رواق الفن المعاصر ــ محمد الأدريسي ــ المديرية الجهوية للثقافة في طنجة ، ولمجمل رسوماته التي حملت اثارتها ورؤيتها الخاصة والمعبرة بأثرِ ما تبقيه تلك الكائنات التي رسمها شاكر نوري لتعلن شيئا من بهجة غرائبتها ونحن نتأمل فيها وجوها قد نعرفها ولكنها ليست عاكسة لبورتريت الملامح ،انما هي ملامح متغيرة تدل على ما يريد شاكر نوري أن يوصله الى زائر معرضه من أن هذه الوجوه ربما تنقل حقيقتها المختفية في بواطنها .
تواريخ ومحطات
أهدى نوري معرضه الى روحين خالدتين في تواريخ محطات حياته منذ مغادرته العراق منتصف سبيعنيات القرن الماضي وحتى مغادرتهما الحياة تباعا هما الروائي المغربي بهاء الدين الطود ( 1946- 2023) ، والاعلامي والروائي السعودي هاني النقشبندي (1963- 2023) . والأهداء الفخم بهيئة معرض للرسم التشكيلي لروحين غائبتين إنما هو بهاء تلونه خواطر الوفاء والتقدير والأثر الموغل في اعماق شاكر نوري لملامح شخصيتين من صداقة العمر احبهما كثيرا ، لهذا اراد لطنجة أن تحتفي بهما اولا ثم بأعماله الفنية التي شكلت نسقا حسيا لكائــــنات يكتشفها هو بغيب تختلط فيه موهــبة قراءة الطالع وتحضير وجوه الأزمنــــة وتخيل حركة الاســاطير والتأثير الروحي والابداعي لعشرات الوجوه التي تصدرت المشهد الابداعي لحضارة الارض ( شعراء وساسه وملوك مؤسطرين منذ بدء الخليقة السومرية وحتى اليوم).
لوحات المعرض تجانست مع شغف الزائرين لهكذا نمط جمالي من الاشتغال ، وقد عرف اغلب الزائرين ان الفنان شاكر نوري هو روائي اولا ،فكان عليهم هنا أن يدركوا إن النظر الى كل لوحة يعني تفسيرها واستعادة لقصة ما ، واهمها تلك الحكايات التي صنعتها الاساطير ومنها حزن جلجامش على خله انكيدو وحكايات عشتار مع عشاقها ،واخرى تسكنها المعاصرة في حكايات عشاق وغجر وتقاليد وموروث قراءات ورموز وطقوس واشياء كثيرة حاول شاكر نوري أن يختلف معها في بنيتها الظاهرية كشكل لكنه اتفق معها كعمق .
وفي النهاية حين تدقق في الوجوه التي يضعها شاكر نوري في لوحاته تكتشف انه يرسمنا نحن ،ويعتني بتفكيرنا اليومي قبل أن يعتني بملامحنا وجماليات هندسة الوجوه ، فتبدو وجوهه مثل اقنعة نشعر اننا جميعا قد نرتديها في فترة ما من فترات حياتنا .
وحين تقترب من واحدة من لوحات المعرض تشعر بغرابة الوجوه وما تعكسه على زائر المعرض من دهشة خفية ومثيرة وخاصة . ( وجوه ببريق خاص أو اللحظة الرومانسية ) هو ما تمنحه لنا عناوين اللوحات المثبة معها والتي تعكس حالة الهدوء لدى الروائي لحظة شعوره ان الرسم هو التعويض المثير عن صمت الكتابة او الاستراحة منها ، وتبدو هذه اللوحة التي تتعدد فيها الوجوه اقرب لما تكون سردا عن حالة الأنوثة لحظة الفرح الغامض الذي يهب على أجفانها ، وعلى ريشة شاكر نوري أن تقرب لنا هذه التعابير بما كان يُرينا أياه ، تفاصيل لأثارة المشاعر والوان هادئة لتلك اللحظة العاطفية بين الأنثى والذكر والأقرب الى تخيلها أن الرجل يقترب من مسامع محبوبته أو زوجته أو من يتمناها ليهمس عندها برغبة ، او الأقرب للفهم ان فم الرجل يقارب من خدها ليقبله.
في لوحات كثيرة من لوحات المعرض ( السارد البصري ) تفنن شاكر نوري في إظهار الرغبة والشهية في مشاعر الرجل والمرأة على حد سواء وفجر مشهدا شهويا لأنوثة اللقاء عندما جعل نهدي المرأة الكبيرين يحتكان بصدر الرجل ، فيما وضع لنا شاكر نوري وجها رجوليا سرياليا أما وجه المرأة فقد تم رسمه بحس رومانسي ظلت فيه متلازمة الاختلاف بين العيون مصاحبة للكثير من وجوه شاكر وهو يريد ان يؤكد على ضرورة ان تختلف الرؤية بين واحد وأخر من الذين يتألمون لوحاته ويفسرونها.
على الناظر ان يتعقب هنا ما يرويه لنا وجه الرجل وتسريحته الأقرب الى ما نسميه نحن في الدارج الشعبي (الكعكولة ) ،والوجه قريب من ذكريات شباب الستينات والسبعينات في موجات الرومانسية التي أتت مع أفلام الأسود والأبيض والملون .
موضوعات حياتية
هذه الوجوه التي سكنت اللوحات وبأشكال وموضوعات حياتية كثيرة هي من تحتفي بها طنجة هذه الايام ،وأظن انها أول لقاء حضاري بين جلولاء العراقية المدينة التي ولد فيها شاكر نوري بخليطها العربي والتركماني والكردي والتي عاش ازمنة التدريش في مدارسها مدرسة لمادة اللغة الانكليزية وبين طنجة المغربية ، المدينة العولمية الساحرة بخليطها من العرب والامازيغ والمورسيكيين الذين سكنهم هاجس الاندلس التي ضاعت في غمضة عين .
بين لوحات شاكر نوري والوجوه السومرية الكثيرة في اللوحات المعروضة والمشعة بفوضى الأسطورة والجمال الخفي تأتي ذائقة العولمة في إصرار روائي ما .ان يجعل لوحته بهذا الشكل .لا غموض فيها بالرغم من خروجها على نمط ما نعرفه عن وضوح الملامح وجماليتها في الرسم ،فهو لايريد ان يرسم لنا رتابة مشاهدة الموناليزا او نساء رينوار او مليحات البدو وبنات القاهرة ودمشق وبغداد في لوحات المستشرقين ، فهو أي ( شاكر نوري ) لديه رؤيا قصصية وروائية تتمثل بأن كل وجه من تلك الوجوه لديه أسطورته الخاصة .
يحتاج معرض شاكر نوري في طنجة الى حديث كثير يتناسب تماما مع متعة الخطوات في التجوال امام اللوحات والنظر اليها بتأمل لتشعر انها تحتاج الى كثير من الحب والتعاطف والتفسير ،انها وجوه لبشر يمتلكون مشفرات خاصة وخفية لوجودهم ولكن المشاهد المثقف سيشعر بها ويمتلك المفاتيح السرية لفكِ تلك المشفرات .
الكتاب الاستدلالي الذي هو دليل المعرض ونافذة التعريف به وقد طبع بالعربية والانكليزية هو ايضا كتاب ( أدبي ــ فني ) امتزجت فيه الرؤى والشهادات التي تحدث فيها اكثر من مبدع عن تجربة شاكر نوري الاستثنائية في هكذا نمط تشكيلي وايحائي ولوني وفكري ، واغلب الذين كتبوا كتبوا بعمق عن اهمية تلك التجربة وعمق الوعي والايحاء في وجوه اللوحات وموضوعاتها ، وهم على التوالي ( الدكتور علي بن تميم ــ الدكتور محمود شوبر ــ الروائي نعيم عبد مهلهل ــ الدكتور كاظم المقدادي ــ الفنان حسن أدلبي ــ الناقد سامي البدري ــ المصور العراقي العالمي كريم صاحب )..
معرض شاكر نوري ( السارد البصري ) في طنجة .هو من بعض تكريمات المدينة للادب والفن العراقي الذي تعرفه طنجة جيداً .