الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أحلام .. حياة ما بعد العنف الأعمى

بواسطة azzaman

أحلام .. حياة ما بعد العنف الأعمى

فراس عبد الحسين

 

تحلم بالسفر إلى السماء ورؤية الأرض من بعيد. تحب النجوم منذ طفولتها، تقرأ كلما يتعلق بالفضاء والفيزياء والرياضيات. تشاهد البرامج الوثائقية العلمية بشغف. ترسم صوراً للكواكب والمجرات والصواريخ، وتعلقها على جدران غرفتها الصغيرة التي تشاركها مع أخيها الأصغر «بوبي».

تعيش في بغداد، في حي الكرادة المنكوب بالعنف، عائلتها مسيحية تتعرض للتهديد والتضييق من مجاميع مسلحة تطالبهم بين فترة واخرى بالرحيل أو دفع الجزية. والدها يعمل سائق تاكسي، يجني قوت يومه بصعوبة. والدتها تعمل خياطة في المنزل، تخيط الملابس للجيران والأقارب. ولديها أخ أكبر يدعى ميلان، هرب من البلاد قبل عدة سنوات.

في المدرسة، كانت «جانسن» تواجه صعوبات كبيرة؛ فقد كانت محط سخرية زميلاتها ومعلماتها، لأنها دميمة الوجه، ولديها عيب في النطق يجعلها تتلعثم في الكلام. يطلقن عليها أسماء مسيئة مثل « الخرسة « و «القردة». لم تكن لديها صديقات، تجلس وحدها أثناء الدرس والفرص. تحزن كثيراً على حالها؛ لكنها لم تستسلم لليأس فقد كانت تستمد قوتها من حبها للفضاء، وإصرارها على تحقيق حلمها.جاء إلى الثانوية مدرس فيزياء جديد يدعى مروان. شاباً طموحاً وذكياً، متحمساً للعلم والتدريس.لاحظ اهتمام جانسن بالفضاء فقرر أن يشجعها، ويساعدها على تطوير موهبتها وثقتها بنفسها. بدأ يمنحها كتباً ومجلات وأفلام علمية، ويحاورها عن مواضيع مختلفة مثل الانفجار العظيم ونشأة الكواكب وانتشار الثقوب السوداء. كان يشيد بإجاباتها وأفكارها، ويشجعها على المشاركة في الدرس، يدافع عنها وينصحها بأن تتجاهل الجميع وتركز على دراستها ونجاحها فقط. واسماها أحلام منذ ذلك اليوم.بفضل مروان، بدأت تشعر بالتغيير في حياتها، بدأت تحب نفسها، وتتحسن في دروسها وتحقق النجاح، أخذت تتغلب على عيب نطقها، وتصادق بعض الطالبات اللواتي يحبن النجوم والمجرات مثلها. شاركت في نادي الفضاء في المدرسة. كانت تحلم بأن تدرس في جامعة جيدة وتصبح رائدة فضاء يوما ما.اندلعت الحرب الطائفية في البلد، كانت دموية ومروعة، أودت بحياة الآلاف من المدنيين. في ليلة ظلماء، اقتحم مسلحون منزلها، قتلوا والدها ووالدتها أمام عينيها، واصابها أحد المسلحين بطلق ناري في رجلها، سقطت على إثره مغشياً عليها. اما بوبي فتمكن من الاختباء والنجاة من الموت بأعجوبة.  ولولا جارهم المسلم، لماتوا جميعاً. فقد وصلهم بعد خروج المسلحين. نقلها وأخوها إلى المستشفى، حيث تلقيا العلاج. ثم أخبر ميلان بما حدث لعائلته، عاد على إثر سماع الخبر إلى العراق، وأخذ أخويه معه إلى ألمانيا، حيث كان يعيش.

ميلان يحصل على راتب جيد من عمله مهندساً في شركة كبيرة. سجل أخواه في مدرسة جديدة، تعلما فيها اللغة الألمانية. كان يحبهما كثيراً، ويحاول أن يعوضهم عن فقدان العائلة. يأخذهما في نزهات ورحلات إلى المتاحف والحدائق والمكتبات. يشتري لهما الهدايا والألعاب والكتب. يستمع الى همومهما وطموحاتهما، وينصحهما بالصبر والجد.باتت تشعر بالفرق في حياتها عما عاشته في العراق، كانت تحس بالأمن والحرية وتوافر الفرص وبالسعادة بوجود عائلتها المتبقية، التي تحبها وتدعمها. لمست الاحترام والتقدير من قبل مدرسيها وزملائها. وافتخرت بنفسها وبإنجازاتها البسيطة.زاد حبها للفضاء ورغبتها في تحقيق حلمها. أخذت تدرس بجد، حتى نبغت في الفيزياء والرياضيات، شاركت في مسابقات علمية وأولمبياد رياضية، وفازت بالجوائز والشهادات، قرأت كل ما يصل يديها من كتب ومجلات. وتفوقت في نادي الفضاء في مدرستها. وصنعت نماذج الصواريخ والأقمار الاصطناعية.لم تنس أستاذها مروان. فهو الذي أضاء شرارة حبها للفضاء، وساندها في أصعب لحظات حياتها. كان يراسلها عبر البريد الإلكتروني، يسأل عن أخبارها وصحتها، يشاركها معلومات جديدة، ويرشدها إلى المصادر المفيدة. يثني على نجاحاتها ويرفع من معنوياتها. يخبرها بأنه مؤمن بقدراتها، ومتيقن بأنها سوف تحقق احلامها يوما ما.

حدث ما كانت تنتظره طوال حياتها. فقد تلقت خبرا ساراً من EUSPA، بأنها قد اختيرت للمشاركة في برنامج تدريب رواد الفضاء، هو المخصص للشباب الموهوبين والمتحمسين، الذين يرغبون في الانضمام إلى الوكالة في المستقبل. يتضمن دروساً نظرية وعملية عن الطيران والطب والهندسة واللغات، ويتيح للمشاركين فرصة زيارة مراكز الفضاء الأوروبية، والتعرف على الرواد والعلماء والمهندسين. ءويمنح المشاركون شهادة تؤهلهم للتقدم للوظائف في الوكالة.

لم تصدق عيناها عندما قرأت الخبر. كانت تشعر بالفرح والدهشة والامتنان، لأن حلمها قد تحقق أخيراً. سوف تصبح رائدة فضاء، تنطلق إلى السماء، وترى الأرض من بعيد، كما كانت تقول لزميلاتها ومعلماتها في بغداد، لكن لم يصدقها أحد.سارعت إلى مشاركة الخبر مع عائلتها وأصدقائها. كان أخوها فخوراً وسعيداً بها. كذلك أستاذها مروان يقول لها إنها تستحق هذا التكريم، وأنه متفائل بمستقبلها الذي سوف يتحقق قريبا.حزمت حقائبها، وسافرت إلى مدينة كولونيا في ألمانيا، حيث كان مقر برنامج التدريب. هناك، التقت بالمشاركين الآخرين في البرنامج، الذين كانوا من دول مختلفة في أوروبا. كانوا جميعاً شباب ذكور وإناث، يحبون الفضاء، ويرغبون في تحقيق أحلامهم. انسجمت معهم سريعاً، وصارت صديقة لهم.بدأت بحماس وجدية، كان التدريب شيقاً ومفيداً، يزيد من معرفتها ومهاراتها.

 يشمل دروساً نظرية في قاعات المحاضرات، حيث كان المدربون يشرحون المواد العلمية بطريقة بسيطة وواضحة، ودروس عملية في مختبرات ومراكز بحثية، حيث كان المشاركون يجربون التحديات الفنية والمهام الفضائية، يتعلمون كيف يعملون في فريق للتغلب على المشاكل والصعوبات، والتأقلم مع الظروف القاسية هناك، مثل الجاذبية المنخفضة والإشعاع العالي والضغط النفسي.كانت تستمتع بكل لحظة في التدريب، تشعر بالإثارة والمتعة وروح الاصرار والتحدي، وازدادت الثقة والكفاءة في نفسها، وقرب تحقيق حلمها.

أنهت التدريب بنجاح، وحصلت على شهادة تؤهلها للتقدم للوظائف في EUSPA. كان هذا إنجازاً عظيماً لها، وبداية رحلتها نحو السماء. عادت إلى عائلتها وأصدقائها، شاركتهم فرحتها وتحدثت لهم عما كسبته من خبرات علمية.لم تتوقف عند هذا الحد. فقد قدمت إلى جامعة مرموقة في ألمانيا، حيث درست الفضاء والطيران. حصلت على درجة البكالوريوس، ثم الماجستير، ثم الدكتوراه. كانت تشارك في الأبحاث والمشاريع، وتنشر مقالات علمية في المجلات العالمية. تحضر المؤتمرات والورش، تلقي المحاضرات والعروض. بات اسمها معروفا في الوسط العلمي، ولديها سيرة ذاتية مذهلة.

قدمت إلى EUSPA، حيث تم قبولها رائدة فضاء. لقد تحقق حلمها الذي طال انتظاره، وصلت للهدف الذي بذلت كل جهدها من أجله.

خضعت بعد ذلك لبرنامج تدريب مكثف، حيث تأهلت لأول رحلة فضائية لها. عدت ذلك يوماً لا ينسى في حياتها، حيث ارتدت بزة الفضاء، وصعدت إلى المركبة، وانطلقت إلى الكون الفسيح.

شعرت بالدهشة والإعجاب عندما شاهدت الأرض ذلك الكوكب الأزرق الصغير، الذي يغطيه غلاف غازي شفاف ورقيق، يحميه ويمنحه الحياة. تذكرت حياتها في العراق، وما مرت به من معاناة وحزن وخوف. واستحضرت حياتها في ألمانيا، وما حققته من نجاح وسعادة وأمل. تذكرت عائلتها وأصدقاؤها، الذين ساندوها وحبوها وفخروا بها، وأستاذها مروان، الذي كان معلمها وصديقها وحبيبها.

نعم، فقد كان حب حياتها، بعد أن أعلن لها عن مشاعره، وتمكن من زيارتها في ألمانيا، قبل رحلتها الفضائية. قال لها إنه يحبها منذ زمن بعيد، وأنه يفخر بها ويحترمها، ويريد أن يشاركها حياته، ويكون بجانبها في كل خطوة، وينتظر عودتها إلى الأرض، ليطلب يدها للزواج.كان ذلك خبراً ساراً لها؛ فقد كانت تحبه ولكنها لم تتمكن من البوح له عن مشاعرها. أخبرته بالموافقة على طلبه، لأنه نجمة في سمائها، وحلم جميل في حياتها.

انتهت من رحلتها بنجاح، وعادت إلى الأرض. هناك، كان باستقبالها عائلتها وأصدقائها وزملاؤها، للاحتفال بها. مروان أول من استقبلها، حضنها بحب وفرح. قال لها إنه سعيد بعودتها وأنه مشتاق لها، حبه لها أكبر من الفضاء، وفخره بها أكبر من الأرض.

تزوجا في حفل بسيط وجميل، كان العرس مليئاً بالفرح والسعادة والحب. العروسان يبدوان سعيدين ومتألقين. الجميع يبارك لهما ويتمنى لهما حياة زوجية سعيدة.

عاشا في بيت جميل في ألمانيا، زوجها يعمل مدرس فيزياء في ثانوية، وهي تعمل في وكالة الفضاء الأوروبية، حيث كانت تشارك في رحلات فضائية مختلفة، تزور المحطة الدولية، وتجري تجارب علمية هناك.

 تستكشف القمر، وتجمع عينات من تربته، تسافر إلى محطة المريخ وتزرع فيها بعض النباتات.

أحلام ومروان كانا يحبان بعضهما بصدق وإخلاص، يساندان بعضهما في كل شيء. يتشاركان هواياتهم وآرائهم وطموحاتهم، ويحترمان اختلافاتهم. ويستمتعون بوقتهم سوية.

شكرت القدر الذي بعث لها مروان، فلولاه لبقيت «القردة» التي يسخر منها الجميع هناك أيام المدرسة.


مشاهدات 119
الكاتب فراس عبد الحسين
أضيف 2024/06/24 - 4:28 PM
آخر تحديث 2024/06/29 - 10:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 271 الشهر 10939 الكلي 9361476
الوقت الآن
السبت 2024/6/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير