شارع المتنبي وآخر ما تبقى من تراثنا الجميل
ماهر نصرت
عندما يتجه المرء الى شارع المتنبي وخاصة في يوم الجمعة على وجه التحديد ينتابه شعور خفي كما هو الحال في احلام اليقظة بأنه سوف يدخل بوابة الزمن لتعود به الى الوراء ، فقد يتراءى له هناك ذالك الماضي الجميل الذي عاشه مع الاجيال السابقة من الآباء وكبار السن من خلال الوجوه الأليفة التي يألفها حوله وقد طبع الزمن عليها اخاديد اللوعة والشقاء ، وسيجد أيضاً صفات الطيبة والبساطة والكرم منتشرة في جنبات ذالك الشارع المزدحم ، فهناك يتجمع تراث الاشياء وما تبقى من الناصح الصالح من بين حطام هذا البلد الجريح وستقابل وجوهاً ترتسم على سحنتها مسيرة الحياة بحلوها ومرها وهي ما زالت سعيدة متبسمة ينبع من ملامحها فيضٌ متدفق من الطيبة والتسامح واحتضان المقابل وسط شرنقة من المودة والتآلف والاحترام ... ليس هذا فحسب فسترى ايضاً ثمة من ملامح الاباء والاجداد تتلألأ هناك على وجوه من تلاقيهم فتسعى بينهم سعيداً مطمئناً وكأنك حللت للتو في زيارة الى بيتكم القديم وسط عائلتك التي انفصلت عنها منذ عشرات السنين ، لقد شعرت بهذا الشعور عندما وجدت نفسي بين جمع غفير من الذين يجلسون على كراسي مبعثرة في ساحة احدى بنايات نهاية شارع المتنبي وكانوا جميعهم من كبار السن ويتبادلون الاحاديث فيما بينهم ، كان بعضهم يضع السداره فوق رأسه وبعضهم الاخر يرتدي نفس البنطال الكلاسيكي الذي كان يرتديه ابائنا واعمامنا وآخر يحمل في يده غليوناً يذكرني بجارنا الشيخ ابو هشام ( رحمه الله ) ذالك الرجل الطيب الذي كان يجلس كل صباح امام باب بيته يحمل بيده المعاقة غليون خشبي ذات ساق طويلة مزين بالأحجار الكريمة يقول أنه جلبه من مدينة صوفيا عاصمة بلغاريا بعد ان اهداه اليه مدير شركة مكائن الخراطة ( التورنة ) عندما ارسلته دائرته ( ايفاد ) الى تلك الدولة فكان يرتشف منه بين دقيقة وأخرى رشفة ينفث بعدها دخان كثيف يشبه الى حدٍ كبير ماكانت تنفثه السيارة
( ام الدخان ) التي كانت تدور في أحيائنا السكنية في ثمانينيات القرن الماضي لتكافح البعوض .
اسفل الظهر
حشرت نفسي بين ذلك الجمع الحاشد من المثقفين وارتميت بجسدي الذي راح يتألم في اسفل الظهر حيث الفقرات القطنية أرتميت على احد الكراسي الفارغة قرب رجلين كانوا يتبادلان الحديث عن موضوع يخص طباعة الكتب المؤلفة حديثاً وصعوبة دفع تكاليفها الباهضة لدى دور النشر فمئة نسخة من أي مؤلف متوسط الحجم مثلاً يكلف مليوني دينار هذا ما سمعته من احدهم وهو يطرح همومه للرجل الاخر عن ضيق حالته المالية فهو لايستطيع ان يلبي طلبات عائلته الكبيرة المتزايدة يوماً بعد آخر لكونه محدود الموارد الى درجة العوز فكيف يقدر على طباعة مؤلفاته التي تكلف الملايين وراح يسترسل في حديثه مع صاحبه الذي كان مرهف السمع لحديثه واخذ يبين له قيمه مؤلفاته الاقتصادية المركونة منذ خمسة سنوات في احدى ادراج مكتبته التي من الممكن ان تعتمدها وزارة التعليم العالي كمراجع لدى مؤسساتها التعليمية وراح ينفث هواء زفيره بشىء من الحسرة والحزن العميق لعدم تمكنه من طباعة مؤلفاته واخراجها للعلن ، اما صاحبه فقد هب من سكونه هو الاخر وانتفض ومال بجسده نحو الارض ليعيد هاتفه الخلوي الذي سقط منه للتو وهو يبين لرفيقه باستهزاء أن وزارة الثقافة العراقية التي تمثل ( الدولة ) أمام العالم لاتمتلك لجنة علمية واحدة تستطيع من خلالها ان تُقيّم المؤلفات العلمية فقد ذهب الى دار الشؤون الثقافية الواقعة في حي تونس من جهة القناة وهو يحمل مؤلفه العلمي بعنوان
( الاتصالات عبر الاقمار الصناعية ) وفق ما سمعته منه ، وقد وعدوه الموظفين في قسم استلام المخطوطات مع مديرهم بعد أن تلقى منهم ترحيباً جميلاً واحتراماً مُشرّف كما يقول لصاحبه وأنهم سيتصلون به بعد عرض مسودة مؤلفه على لجنة تقييم المخطوطات التي ستجتمع بعد ستة اشهر حسب النظام المتبع من قبل وزارة الثقافة ، وقد تفاجئ الرجل على حد قوله بهذه المدة الطويلة ومن يدري لعلهم يرفضون كتابه بعد طول انتظار وبعد لحظات من الصمت والتفكير قرر القبول والرضوخ لطلبهم على مضض ورحل خائباً ينتظر مصير كتابه بعد المدة التي ابلغوه بها ومضت نصف سنة وعشرة ايام على مخطوطته ولا يعلم بمصيرها حتى نفذ صبره وراجعهم ليستفسر عن الموضوع فأعادوا مخطوطته اليه بسبب اعتذار لجنة التقييم عن قبولها لعدم وجود لجنة اختصاص للبت في مثل هذا النوع من الكتب العلمية ونصحوه الموظفين هناك بعد ان اصابهم الخجل منه ان يتم طباعته في مطبعة دار الشؤون الثقافية بداخل الدار نفسها على حسابه الشخصي الذي يكلف مبلغ كبير لكون المخطوطة ملونة وراح ينتقد تلك الوزارة والى أي مدى وصلت من التراجع العلمي فهي لاتستطيع ان تؤمن لجنة علمية ولو من شخصين لتقييم الكتب المؤلفة وطباعتها على حساب الدولة ونحن في القرن الواحد والعشرين عصر التطور النووي والفضاء فلجنة التقييم الوحيدة الموجودة لديهم حالياً مختصة بالشعر والنثر والقصة والرواية والنقد الادبي وغيرها من المؤلفات التي لاتعمل على تطوير المجتمعات أو تتقدم من خلالها الامم فالعلم والصناعة هما الوسيلتين الوحيدتين اللتين ترتقي من خلالهما الدول والشعوب فوق سلم التقدم ، فصارت مكتباتنا ومخازننا اكداس من مئات الآلاف من الكتب الادبية العبثية الفائضة عن الحاجة الفعلية التي تأخرت بسببها حضارتنا العربية وتخلفت دولنا عن الركب العالمي بسببها على خلاف الدول الغربية التي تمسكت بالعلوم ومن ثم الصناعة وراحت تصنع وتتطور فغزت الفضاء والمديات وسيطرت بتفوقها التكنلوجي على مجتمعاتنا التي خدرت عقول اجيالها بالشعر والقصة والنقد الادبي والكتب الادبية الاخرى العبثية الاخرى التي لاقيمة لها وهذا خطر عظيم على بلداننا التي صار احتلالها امر يسير من قبل الدول الصناعية الكبرى وراح يستطرق قائلاً لصاحبه وانا استمع لحديثه المشوق بلهفة بأن المستقبل خطر على شعوبنا فهناك قواذف ابرية ليزرية عالية الطاقة مثبتة على جنبات الاقمار الصناعية سيتم دخولها الخدمة في المستقبل القريب وهذه القواذف الليزرية تستطيع ان تضرب أي هدف في بلداننا وهي على ارتفاع 100 كم فسيحاربوننا من الفضاء وهم يجلسون في بلدانهم وبأيديهم (جويستك الالعاب الالكترونية ) ليقودوا بها قواذفهم العائمة في اعالي الفضاء بدلاً من ان يرسلوا الجيوش عبر البحار وسيفرضوا علينا شروطهم ورغباتهم الاستعمارية ونحن نطيع صاغرين .
حديث مشوق
بدأت اشعر بالعطش وانا استمع الى هذا الحديث المشوق بين الرجلين وتمنيت ان يأتي النادل ليسعفني بقنينة ماء أقضي بها على عطشي ويبدوا أن الساحة وسط البناية كانت تفتقر الى مثل تلك الخدمات المهمة بضمنها الحمامات والمغاسل على الرغم من اعتبارها مرفق سياحي ثقافي مهم يكاد يكون الوحيد في بغداد ، نهضت من مكاني مسرعاً لأجلب قنينة ماء من احد الباعة المعشعش بمتاعه عند مدخل الباب الرئيسي لذلك التجمع المزدحم وانا قلقٌ على مكاني الذي تركته خالياً سحبت قنينة ماء من البائع من تحت الثلج بشكلٍ خاطف ورميت اليه المبلغ وعدت مهرواً لألحق مكاني قبل ان يشغله احد غيري فوجدت للأسف قد شغله احدهم وحرمني من الجلوس والاستماع الى الحوار الجميل الذي كان يدور بين الرجلين الثائرين .... عدت ادراجي وخرجت منعطفاً نحو اليسار حيث كرنفال الخطباء والرسامين والزوارق السياحية الجميلة التي تمخر عباب نهر دجلة الخالد لأقف هناك على الرصيف المرتفع قرب تمثال ابو الطيب المتنبي اتأمل طيور النورس التي تُحلّق في فضاءآت النهر وهي تزعق بصوتها الصارخ الجميل كانت طيورٌ بيضاء جميلة ترتفع وتنخفض مع امواج النهر الرتيبة ، تريد اصطياد الاسماك بمنقارها الطويل بحركة هجومية مباغتة .. بعضها يفشل في محاولته فيرتفع عالياً ليعاود كرته القاصفة .. والبعض الاخر يفلح فيعود منتصراً قابضاً بمنقاره سمكة صغيرة ثائرة تريد الافلات من قبضته الصارمة لتعود حرة الى بيئتها فتشعر بعد كفاح ان تلك القبضة هي الاقوى .. فتأخذ طريقها الى جوف الطائر راكدة مستسلمة للقدر ...
وراح يأفأف بحسرة هو الآخر