ساحر الدبلوماسية العراقية
قصي منذر
وددت في هذه السطور أن أكتب شيئاً عن ساحر الدبلوماسية العراقية ،وقد ينداح في ذهن البعض التساؤلات الكثيرة لمعرفة من الذي بفضله نجح العراق في إقناع الأمريكان مغادرة الأراضي عام 2011 ؟ وكيف كان يفسر الأحداث ويحل عقدها المتشابكة ؟، ولاسيما إن التعامل مع هكذا قضايا حساسة ومصيرية تحتاج إلى قارئ نهم ومفاوض من الطراز الأول يرى الاحداث من الزوايا التي لم يراها حتى من وضع نظرية (التفكيك والتركيب)، واجزم بقناعة تامة انه عبر حدود تلك النظرية إلى آفاق أوسع وأستبق من كان يظن نفسه العبقري الوحيد والدبلوماسي العتيد الذي يمسك بكل مفاتيح اللعب، فبأسلوبه الاكاديمي اللافت بدى لي إنه مستشرف المستقبل في طروحاته ،والتنبؤ بمآلات الأحداث ،ومن يتمعن بسيرته يدرك أنه لا يقول شيء ضرب من الخيال أو فكرة عابرة تطرح للاستهلاك الإعلامي.
والحق أقول كنت لا أعرف إن عقيلته هي الباحثة الإجتماعية الدكتورة فوزية العطية ،التي أتصل بها عندما يطلب مني تغطية موضوع ما عن حالات الطلاق أو التفكك الأسري الذي يسود مجتمعنا العراقي في الوقت الراهن ، وعندما يرد عليّ ويقول (الدكتورة مشغولة الآن .. أتصل بعد قليل) أخجل تكرار الاتصال بها خشية إن يرفع الخط مرة ثانية ،وفي يوم 4 تشرين الأول عام 2021 ،طلب مني رئيس تحرير (الزمان) طبعة العراق د. أحمد عبد المجيد ،حضور ندوة ثقافية يُضيف خلالها نادي العلوية أحد الدبلوماسيين العراقيين للحديث عن مشروع الفاو وأهميته الستراتيجية للعراق والمنطقة ،وابلغني وقتها إن هذه الندوة مهمة وأنك ستلتقي بأحد الشخصيات المهمة والمعروفة بـ (شيخ الدبلوماسية العراقية).
دفعني الفضول قبل الذهاب إلى الندوة التي حملت عنوان (ميناء الفاو .. نهر لا ينضب) للبحث عن هذه الشخصية من باب التسلح بالمعلومات الكافية وطرح اسئلة مركزة توازي حجم الموضوع المكلف بتغطيته ، غادرت مبنى الجريدة ،متوجهاً للنادي وعند الوصول ارشدني مسؤول الاستعلامات إلى القاعة ، دخلت ورأيتها مكتظة بالحاضرين وكنت محظوظاً عندما وجدت مقعداً خالياً امام الضيف الذي قدمته إدارة النادي بإنه عميد الدبلوماسية العراقية قبل إن تمنحه الاذن بالكلام لينصت بعدها كل من حوله إلى حديثه الجذّاب المقنع حول الأهمية الكبرى للميناء ،برغم تأخر إنجازه لسنوات ،حينها بادرت بالسؤال وقلت له : ما مدى تجاوب تركيا مع طرح العراق لانشاء القناة الجافة في أراضيها ؟،فكان رده قائلاً :لن ترفض ذلك وسيدر المشروع عليها اموال طائلة ، وكأنه يقرأ الحاضر بإن لا خيار إمامها سوى القبول بالفكرة، وهذا ما حدث فعلاً بتوقيع إتفاقية رباعية تضم كل من العراق وتركيا وقطر والإمارات حول طريق التنمية ، وقد فاتني إن اعرج على زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى بغداد قبل أيام والتطرق إلى ما ذكره الراحل.
المفاجأة كانت هي خلال حضور حفل اقامه نادي الصيد لتكريم كوكبة من الأكاديميين والأدباء بمناسبة يوم بغداد من بينهم الباحثة الاجتماعية فوزية العطية وبجانبها يجلس وكيل وزارة الخارجية الأسبق الدكتور محمد الحاج حمود ،بادرت بالسلام وباركت للعطية تكريمها ، ومن ثم انسحبت وسألت الخبير القانوني الراحل طارق حرب، ما الذي أتى بالحاج حمود إلى هذا الحفل ،هل هو قريبها أم مدعو للتكريم ،فأخبرني إنه زوجها ،شعرت بالصدمة كوني أعرفهما وتربطني علاقة طيبة بهما وكنت على اتصال دائم معهما دون إن أبحث أو أكتب من هو زوج العطية أو من هي زوجة الحاج حمود لان الأمر لا يعنيني كما لا يهم الآخرين، استذكرت ذلك وانا أقرأ خبر نعيه على مواقع التواصل عن عمر ناهز 88 عاماً ، نعم رحيله خسارة لا تعوض ،بعد مسيرة حافلة بالعطاء ، ترك خلالها بصمة خالدة لا تمحى من الذاكرة ، فلقد كان دبلوماسيًا محنكاً ،يتمتع بخبرة وكفاءة ، إجاد التفاوض بالعقل والحكمة، حذق وفطن ، يقارع الحجة بالحجة ،مؤثر وفاعل وهذا ما تميز به وجعل نجماً يتلألأ في ميدان مليئ بالخفايا والاسرار وكل شيء فيه (مطوي) ومن هنا اوجه الدعوة للسيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى تكريم عائلة الراحل وتوجيه امانة بغداد بتخليد إسمه على أحد شوارع العاصمة ،تثميناً لما قدمه من جهد وعطاء خدمة للعراق وشعبه على مدى عقود.