أذن وعين
بغداد في يوم مقتل الملك غازي
عبد اللطيف السعدون
تروي روث هوفمان وشقيقتها التوأم هيلين الأميركيتان اللتان عاشتا في العراق نهاية ثلاثينيات القرن الراحل ما شاهدتاه في بغداد يوم مقتل الملك غازي، الذي تمر هذه الأيام ذكراه الخامسة والثمانون، وبحسب ما جاء في مذكراتهما التي حملت عنوان «ليالينا العربية» فانهما علمتا بخبر الوفاة من الطباخ الهندي الذي يعمل في منزلهما، وسارعتا الى الخروج بصحبته لمشاهدة ما يجري رغم ان دوغلاس زوج روث نصحهما بالبقاء في المنزل.
«كانت هناك زحمة، وشاهدنا موكبا جماعيا من الرجال والنساء والأولاد، وهم يقطعون جسر (القفف) الضيق مهرولين، كما لو أصابهم مس من الجنون، حاملين العصي يلوحون بها في الهواء في ايقاعات منغمة، فيما كانت هناك بضع سيارات تسير ببطء في الأزقة المحاذية لدجلة خوفا من أن تتسبب سرعتها في الاصطدام بجموع الناس المسرعة، وقد حجبت صرخات المهرولين ونواحهم دمدمة الالواح الخشبية للجسر التي كانت تسمع في الأوقات الاعتيادية، كان الناس يرددون بنغمات حزينة:
الله أكبر يا عرب، غازي انفقد من داره/ ارتجت أركان السمه من صدمته السيارة»!
تواصل روث وهيلين روايتهما: «نزلنا وسط جمع النسوة النائحات المتشحات بالسواد، ومعظمهن يحملن أطفالهن الرضع على أذرعهن فيما يتعلق أطفالهن الأكبر سنا بأرجلهن، وقد لاحظنا أن النسوة من حوالينا كن يتهامسن بشيء غير مفهوم فيما كان الغالب على المشهد هو النواح والعويل الذي يتصاعد أكثر فأكثر ليثير مشاعر الحزن والأسى، وقد شعرنا نحن بالانسحاق والمرارة، ولم نستغرب ما سمعناه لاحقا من أن فتاة في السادسة عشرة قتلت نفسها في نوبة هياج وانفعال شديدين.
أثارت فينا مشاهد الاندفاع الشرس لهذا الجمع الثائر مشاعر الخوف والاضطراب، وجعلتنا نصاب بالدوار، وكان هناك دوار في الجو العام فعلا، وطلبنا من الطباخ المرافق لنا أن يبقى على مقربة منا حماية لنا، عندها أبلغنا أن الناس يهمس بعضهم لبعض في أن الملك ذهب ضحية مؤامرة بريطانية!
بدت أغلب المحال التجارية مغلقة، وقد أعطى ذلك للمدينة مظهرا لافتا، ولا نتذكر أننا رأينا بغداد على مثل هذه الحال من قبل، وفي مسيرتنا وسط الحشود كانت النسوة يندبن ويبكين بحرارة، ويلطمن على صدورهن، ويهزجن بعبارات حزينة، كما شاهدنا شرفات المنازل وسطوحها وقد امتلأت، هي الأخرى، بالناس، عندها تملكنا احساس بالرعب اذ خطر في بالنا أنه وسط هذ الخليط من المشاعر يمكن أن يحدث أي شيء.
وعند مدخل أحد الأزقة، اقتربت منا، على نحو عفوي، ثلاث نساء باكيات، وقد تركن، ربما بقصد، عباءاتهن تنزل قليلا عن رؤوسهن، وخمنا أنهن نائحات محترفات يأخذن قسطا من الراحة.
توقفنا قرب مدخل (أوتيل جبهة النهر)، وعزمنا أمرنا على العودة الى البيت في الحال، في تلك اللحظة لاح لنا وجه معروف عندنا، انه الشيخ محمود وكيل إحدى شركات السيارات، وبدا عليه انه فوجئ بوجودنا اذ قال لنا انه مستغرب لوجودنا هنا في مثل هذا اليوم، قلنا له اننا في نية العودة لكنه رأى أن الأفضل هو الدخول الى الأوتيل، وتناول كأس من عصير الليمون البارد ثم العودة، ووعد بمرافقتنا حتى وصولنا الى البيت، وهذا ما حصل.
عند العصر أخذنا دوغلاس في طريق ملتوية ليلقي بنا في منزل صديقتنا سوسو وزوجها كاظم الكيلاني (الذي يعمل موظفا كبيرا في البلاط الملكي)، ولم ينس أن يبلغنا، فبل أن يتركنا، أننا يجب نبقى على حذر، وأن القنصل البريطاني في الموصل مونك ماسون قد قطع اربا من قبل جماهير هائجة كالتي رأيناها في الصباح.
استقبلتنا سوسو بدهشة، وقالت لنا ان زوجها ظل في القصر الملكي طوال اليوم، في تلك اللحظة دخل كاظم ليرحب بنا، وقد حدثنا كيف كان الملك القتيل قد تم تحذيره مرات من قبل مرافقيه من السرعة في قيادة السيارة، وتذكرنا، من جانبنا، ان غازي نفسه قال لنا ذات مرة انه يعشق السرعة.
سألنا كاظم عن حال الملكة الشابة فأجاب أنها واجهت الأمر بشجاعة مع أن الصدمة كانت مريعة حقا.
والى الأسبوع القادم.