فشل التجربة السياسية حال دون ظهور زعامات مقنّعة
رياض عبد الكريم
كثيرا مانقرا ونتفاعل مع شخصيات تركت بصماتها واثارها في تأريخ بلدانهم بعد ان تصدرت كل مشاهد الحياة ومسارات المنجز، لتتبوأ موقع الزعامة او القيادة التي تلتف حولها الجموع الشعبية مانحة اياها كل الدعم والمساندة ، ومعبرة عن قناعاتها في نوايا وافعال تلك الشخصيات ، التي هي الاخرى تزداد حرصا وانتماءا لشعوبها من اجل الاستمرار في التفاني من اجل ازدهار اواطانها وتوفير الحياة الحرة الكريمة لشعوبها ، ولا اريد ان اذكر امثلة لتلك الشخصيات لئلا اتهم بالانحياز او تبني مواقف واتجاهات قد يضنها البعض انها مقصودة لاغراض سياسية ، لكنني اردت ان اشير كبداية للمقال لتلك الحقيقة التي لاتغيب اطلاقا عن ذهنية وذاكرة الجميع .
والزعامات هم شخصيات ذو مواهب خاصة تمكنهم من انجاز اعمالا قد تكون خارقة لدى الكثير من الناس. او انهم قد يكونوا اشخصا عاديين يملكون من قوة الشخصية والكاريزما ما يمكنهم من جذب الناس وتوحيدهم, فيصبحون هم الشخصيات المحورية التى تتعلق بها مصائر الاخرين.
وليس بامكان وسائل الدعاية الرسمية خلق ابطال من الرؤساء الحاليين, لانه من الصعب على الناس حاليا تصديق انهم اتوا باعمال خارقة, وهم لا يملكون موهبة تحبيب الناس فى شخصهم وفعلهم.
واقع الناس
الزعيم يجب ان يكون شخصا متواضعا يعيش واقع الناس بكل متناقضاته فهو منهم ويدافع عنهم. لقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم خير مثال للبطل, فهو رغم فضله ومكانته عند الله وعباده, الا انه كان يعيش مع الناس ويتكلم مع كل الناس ويلتقونه فى منتدياتهم واسواقهم دونما حاجب او حارس.
من الصعب ان ينشأ الزعماء فى مجتمعات تربى النشء على الخوف والذل والانانية. الزعيم يكون متحررا من كل ذلك. ولانه دائما حر وايجابى ومؤثر على محيطه, ويكون وجوده ضرورى للجماعات والافراد حتى تؤخذ منه القدوة الحسنة التى بها تتقدم المجتمعات.
واخطر ما تقوم به الانظمة المستبدة هو تجفيف المجتمعات من كل الابطال والاعلاء من قيمة شخص واحد هو الحاكم المستبد الذى هو شر قدوة للناس لذا نجد ان تلك المجتمعات المقهورة تكثر فيها افات الفساد والذل والاذلال.
في العراق وفرت الظروف التي عاشها الشعب في محنه الداخلية من حروب وحصار الفرصة التاريخية لبروز الزعامة الوطنية، سواء في مواجهة الاحتلال العسكري الأميركي، أو في معركة البناء وخدمة الإنسان.
ولكن للأسف كانت الحالة العراقية شديدة التعقيد في العشرين سنة الأخيرة، في وقت انحسر فيه تأثير دور البطولة الفردية في الحياة السياسية في المنطقة، وبدلا من أن تعبر قيادات المعارضة العراقية قبل عام 2003 عن انحيازها لتطلعات الشعب، تحولت إلى أدوات بيد الاحتلال تحت ذرائع الخلاص من النظام الدكتاتوري، وبذلك انطفأت جذوة التفاعل ما بين الناس وبين أولئك السياسيين .
فرص الزعامة توفرت حتى لأولئك الذين ساعدوا الاحتلال وتم تنصيبهم في السلطة بقرارات من قيادته المتمثلة ببريمر.
كان بإمكان من يحلم بالزعامة السياسية أن يقدم نفسه للشعب العراقي كقائد للتغيير وللنهوض الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي، وأن يعلن أمام هذا الشعب المبررات الوطنية التي اضطرته هو وحزبه أو جماعته للتماشي مع الاحتلال وخدمته. كان قادرا على تقديم مشروعه ومشروع حزبه الوطني ويخوض المنافسة الديمقراطية في ما بعد، لا أن يوّقع على دستور جَزّأ العراقيين إلى مثلث طائفي بغيض (كردي، شيعي، سني) ويجعل الأغلبية في المنافسة طائفية وليست سياسية. وفي كل خطوة تلحق الضرر بالناس يقول: هذا هو الدستور. ويفكر الحالم بالزعامة أن يحققها عبر طائفته لا عبر شعبه، وهذه أولى موانع الزعامة، إضافة إلى موانع كثيرة لا حصر لها، فكيف يحلم بزعامة العراق من ينحاز إلى حزبه وطائفته ويقصي قطاعا شعبيا واسعا، بل يختار كل الوسائل التي تصنف الآخر بالعدو والخصم الذي يستحق الملاحقة والسجن أو التغييب، أو يدعي تمثيل طائفته لكنه يقدم أفرادها ضحايا لمكاسبه ومغانمه الشخصية، ورغم شعوره بأنه خاسر بين من يدعي تمثيلهم لكنه يعاند لأنه يعتقد أن ساحة المنافسة لاحتلال مواقع حكومية أو برلمانية خالية، فالرجال الأوفياء الصادقون بعيدون أو مستبعدون وقسم كبير منهم لا يريد أن تتوسخ دشداشته البيضاء بمستنقعات الفساد وبيع المبادئ بثمن رخيص.
أليس من أولى مقومات بناء العراق الجديد أن تعمم معالم المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي وليس نبش زوايا الثأر والانتقام، وفتح جراح الماضي وتغذيتها بشحنات الطائفية السياسية. أليس مثال الزعيم الراحل مانديلا درسا لكل من يحلم بالزعامة حين فتح في جنوب أفريقيا عهدا من المصالحة عفى من خلالها عن جميع القتلة العنصريين، وطلب الإذن من ملايين أهالي الضحايا لتحقيق ذلك المشروع التاريخي الذي أصبح من خلاله زعيما عالميا.
إن المفاهيم السائدة اليوم في تعريف الزعامة شابتها شوائب كثيرة, وأثر الإعلام فيها سلبا فالزعيم هو من ضخم الإعلام أعماله ونصبت في الساحات تماثيله ووزعت على الجدران صوره فهذه البطولة الزائفة التي يعرفها العالم اليوم, ولكن ما هي الزعامة الحقة ؟
إنها التضحية من أجل الآخرين ودفع الغالي والرخيص في سبيل الآخرين دونما انتظار لمديح أو ثناء أو مقابل مادي معلوم ، وعلى العكس نرى من يدعون بالزعامة يجولون وأبنائهم وحواشيهم في فاره السيارات وفخم القصور وبين كازينوهات العالم والشعب يزداد جوعا وفقرا, وهم يقتسمون وحواشيهم ما طالته أيديهم والشعب يعاني مرارة العيش ، وبطش الحريات ، وانتشار الفساد وشيوع الخطف والاغتيالات وتعثر الخدمات وتضخم البطالة .
ففي ظل مثل هذه الظروف ، حتما سيكون الشعب في الضفة الاخرى الرافضة والمعارضة لمن يطلقون على انفسهم صفات الزعامة او القادة ، لانهم قد ارتضوا واقتنعوا بموالات جماهير احزابهم وكتلهم لهم وكأنهم هم الشعب ، في حين لايكترثون على الاطلاق لمعاناة الشعب وكيف يفكر وماذا يريد وماهي مظالمه بل وماهو رأيه بهم ، وتلك هي المصيبة الكبرى عندما يقنعون انفسهم بالمحيط الفاره الذي يعيشونه وكأنه هو ذات المحيط الذي يعيشه الشعب ، وهنا لابد من الاشارة الايجابية لتجربة السيد مقتدى الصدر من خلال تياره الصدري والتي تميزت عن باقي تجارب الاحزاب بالكثير من الممارسات والمواقف التي عبرت فعليا عن رفضه للواقع السياسي ومعظم حيثيات العمل السياسي ومواقف الاحزاب المتخاذلة ازاء الكثير من القضايا التي تحتاج الى متبنيات وطنية لحلها .
مشهر سياسي
وحتى لا اجزم بأن هذا الواقع هو الثابت وليس بالامكان تغيره ، اقول كلا هذا الواقع ممكن تغيره ببساطة من خلال مراجعة شاملة ودقيقة لكل الممارسات والمواقف والوعود التي تسيدت المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003 ولحد الان ووضعها تحت المجهر من خلال الحس الوطني والنوايا الصادقة والتوجهات الحقيقية لاكتشاف حجم الاخطاء والتجاوزات والادعاءات التي ارتكبت خلال تلك الفترة من اجل القيام بعملية ثورية تصحيحية وكأنها توضع حجر الاساس من جديد لبناء العراق ، وفق مفاهيم ديمقراطية مدنية معاصرة تهدف لاعلاء مصلحة العراق واسعاد الشعب والتكييف لممارسة اقصى درجات العفة السياسية ، وأن يتحرر من يدعون بأنهم قادة او زعماء سياسيون من عقد الانا ويبتعدون عن ترويج الرمزية لانفسهم والتخلي عن كل مظاهر الفخفخة والابهة ، وأن لاينظروا للشعب نظرة متعالية كي لايكونوا مثل فرعون عندما قال مخاطبا شعبه : ما أريكم الا ما أرى ، وأنا ربكم الاعلى ، فتلك هي المصيبة التي يقع بها اهل السياسة بعد ان تلازمهم عقدة العظمة وهي العقدة التي غالبا ماتكون السبب الرئيسي في سقوطهم .