الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة في قصيدة أعمل الان قرب مقبرة

بواسطة azzaman

فاعلية الضمائر وتكرارها

 

قراءة في قصيدة أعمل الان قرب مقبرة

ايمان عبدالحسين

 

يخضع اي نص نتناوله للقراءة بما يحتويه من العناصر والاشكال والصور الى قراءات متعددة، وان هذا التناول يختلف من قارىء الى اخر، ذلك كون اية قراءة في اساسها تاخذ مبرراتها بما يمنحها النص الابداعي لها عبر متابعة كل ما يحتويه من أساليب وسمات وملامح وجمل مترابطة سواء ما تدخل بشكلها الضمنيّ الترميزي او ما تدخل بشكلها المعلن للتعبيرعن رؤية المبدع التي يبثها معجمه اللغوي (لكل فرد طريقته الخاصة في بناء الجمل والربط بينها دون بعضها الاخر او يستعمل ادوات معينة دون اخرى)(د  شكري عياد ،مدخل الى علم الاسلوب،ص22)،  ذلك بما يتضمنه من  الحروف والاسماء والافعال والضمائر التي لسعة استخدامها في قصيدة(اعمل الان قرب مقبرة) الماخوذة من كتاب الشعرالصادر بالعنوان ذاته عن دار الشؤون الثقافية العامة ضمن منشورات بغداد عاصمة الثقافة العربية ، للشاعرمنذر عبدالحر ولدورها المؤثر الذي لايمكن إغفاله اتخذناها سبيلا للقراءة هنا ، فالضمائربما تمثله من مرتكزات حيث تاتي اهميتها باعتبارها اداة للربط من جهة.

اهمية الحالة

وتحقيقها للدلالة من جهة اخرى، اضافة الى ان هذه القصيدة تمتاز بطولها ليس من عدد الاسطر فحسب انما من خلال الفكرة التي تتجسد عبر الموقف في مصادره الأساسية الذي تحيط به، ومن اهمية الحالة الفسيحة والممتدة التي تطرحها ، فهي تبدو من عنوانها حاملة بكثير من المعاني ومختزلة دلالات النص الشعري ككل، والذي يحاول الشاعرمن خلاله التمهيد للقارىء للاحالة الى ما سيأتي لاحقا عبر استدعائه الدخول الى اجواء الحزن والتشظي، نص شعري نرصد فيه اهتمام الشاعر باستخدام الضمائر وتنوعها التي تدوراغلبها حول الضمير المتكلم المنفصل انا الذي يعبرعن الذات الشاعرة بما ينمازعليه داخلها المازوم، وان القارىء المتمعن سيدرك عند استمراره بالقراءة مبررات اتخاذها العمل قرب المقبرة، اما الضمائر الاخرى نجد انها تكمل و توضح وتفسر للحالة التي وصل اليها الضميرانا ، وهذا لا يمنع ان كل من الضمائرلها دورها المهم  في تكوين دلالة النص الشعري، فالشاعرعلى امتداد القصيدة يحاول التنوع في استخدام عدد من الضمائر بين ظاهر ومستتر وبين متصل ومنفصل. منذ بداية الاستهلال يبدوان الشاعر يحاول استمالة المتلقي من خلال تفعيل الاحساس بطرح الجانب التوتري الذي تعانيه الذات الشاعرة ،  فالشاعر يسمح بالتغلغل القارىءعبره رويدا في الاجواء التي توصّف بالموت والرحيل والفقدان.

امتداد القصيدة

فهو على امتداد القصيدة يضع قارئه وجهاً لوجه أمام جو يحمل رائحة المقابر محاولااكتناه ابعادها وهذا ما يتضح من قوله في البدء : في الارض التي لا تؤوي احدا/ثمة احلام/ثمة قرى هربت من الخرائط/ومنسيون اججوا خصبهم /وهم يقضون نهاراتهم بالرحيل/ولياليهم بالتعلق بالنجوم/المعاول/التي حفرت اخدودا/ اخذت قيلولتها/ حين جرى الماء/وهو يرفع اصبعه/ليسكت الخرير/ويسير بالسر الى المقبرة/ المعاول ذاتها/جرحت خد الارض/فسالت منه طوائف/واضرحة، نلاحظ في هذه الابيات ان الشاعر يحاول توزيع الضمائرما بين الضميرالمنفصل و ضمير الغائب المتصل هم في (خصبهم – لياليهم)  والهاء( ذاتها- قيلولتها) المحال الى المعاول والاحالة نصية قبلية ،ثم ياتي ضميرالمتكلم المنفصل ليعلن نفسه واضحا بعد ذلك بقوله / انا ايضا /مشيت خلف جنازة الحكمة /دجنت خطواتي/ لاحظى بكسرة عمر/لا تؤدي الى انكسار/امام باب اللهفة نجد ان الضمائر بكل انواعها هنا من ضميرالشان ان كان متصل اومنفصل انا والياء يعود الى الذات الشاعرة والاحالة هي احالة مقامية، ويبدو هذا ناتج عن شعور الضمير المنفصل انا بالازمة فيحاول تحقيق مشاركة القارىء وتعاطفه معه في ازمته كيف لا فهو الضميرالذي يبدو منتصبا منذ البدء وهوالمتحقق من الجمع ما بين حرفين هما الهمزة والنون اللذان يصفان بالجهر المتمثل بانحباس وتكتم النفس حين النطق، والقوة التي يأتيان بها تتوافق مع الالف في نهاية الضمير للاطلاق فبدونهما يحدث الانفجار نتيجة لهذا التكتم والانحباس وان وجود الالف دلالة على ان هذا الصوت يبلغ اعلى منتهاها، فالضميرانا يبدو هنا جامعا بين المستوى الايقاعي والدلالي في الوقت نفسه لا سيما انه الضمير الذي يحيل الى الذات الشاعرة ( فهي اكثر حميمية واقناعا للمتلقي وفاعلية هذا الضميروثيقة الصلة بفاعلية الانا الشعرية وحضورها في الموقف الشعري في اطار جدلها مع الاخر وحضوره في اطار حركة المعنى المرتبطة بزاوية الرصد المقدمة في النص الشعري)( عادل ضرغام، تحليل النص الشعري ،ص94).وللتعرف على طبيعة المرجعيات وتوجيهها كي تكون ادوات فاعلة في ثنايا النص الشعري استعان الشاعر بادوات ورموزلينقل الذات الشاعرة من الحالة السلبية الى الايجابية ونرى في المقطع الاتي يحاول الاستعانة بالضمائر المتنوعة: / دائما اقول علمنا الفقر / ان نضحك من شدة الصبر / وان نتعلم من غناءنا/ دائما امضي الى سحب ادخرتها / الى جمر ينغزني / كي تهدا احلامي: من ضمير المتكلم المستتر الى الضميرالمتصل ناء  -(علمنا- غناءنا) وان اختبار الشاعر صوتا جمعيا المتمثل بضمير الجماعة مرافقا للصوت المفرد الذي يمثل ضمير المتكلم المتصل الياء في (- ينغزني- احلامي،) ذلك نابعا من قدرة الذات الشاعرة على الانفلات من ذاتيتها من خلال التعبيرعن ما يعانيه الاخرين، ويدل في الوقت نفسه على التقارب بين الصوتين ، وان الشاعر قد استعان بادوات متنوعة في سبيل الاخذ بيد الذات الشاعرة للنجاة من قساوة الواقع ومجاوزة ما يعتري داخلها من اسى وتشظي، ولكن هذا لا يمنع ان الذات الشاعرة في سبيل ان تهدا احلامها تحاول البحث عن ادوات اخرى توقف عبرها احلامها، من ذلك نستطيع ان نتبين ان الشاعر يحاول الاحتفاء باي شيء يبعده عن واقعه المؤلم فهو الشاعرمنذ عبد الحر الذي يبحث دوما عن بارقة امل حتى في مجاميعه السابقة التي يمتطي فيها احصنة المخيلة حتى ولو كانت متهالكة من خشب.

الاستمرار بالانفتاح

 ولابراز الاثرالفني والدلالي للمرجعيات التي تحرك فضاء القصيدة اتجاه العويل والموت نرى ان القصيدة  تستمر في الانفتاح على ذات الصورة التي مما لا شك ان الضمائر تلعب دورا في توجيهها كما في الغاية التي تؤمها هذه الابيات:اعمل الان قرب مقبرة/اروض حياتي/عند الغروب الوح للقبرات/وفي الصباح/اركب دراجة الياس / واذوب في الناس/لاجمع اثاث الموتى / وصخب الارامل/وعويل الموتى / وامضي بحزمة قلق/الى حبيبة صامتة/تسالني بعينيها عن يوم ات/لترى الدخان/فتنبني من بكائها بيتا- بدءا من الضمير الغائب المستتر–انا- الذي ياتي من باب الاحالة النصية الى كلمة اعمل ، وكل ما تاتي فيها من افعال (اروض،اركب،اذوب،امضي)كلها تعد افعال مستترة يبدو فيها المحال عليه واضحا غير مجهول يحيل الى الذات الشاعرة التي ادركت انها مجرد كائن ليس بمقدوره ان يغيرالعالم، فهي الذات اليائسة وان اتخاذها العمل قرب مقبرة كونه يمثل مكانا منطقيا لها ، ذلك لان كل ما تمتلكه هو قدرتها على رؤية العالم من منظور من يعمل قرب مقبرة .

 فالشاعر قد وضع الذات الشاعرة على مسار الحكم النقدي فهي من جانب بمثابة نقض لذاتها والتكفيرعن الوجهة الذي اتخذتها و يمثل في الوقت ذاته الضميرالذي يقف موقف الرافض لما يحدث.  ولاجل الاستمرار في ذات الطرح الذي يسعى فيه الشاعر الكشف عن حالة التخاذل وما رافقها من الشعور بالخيبة والندم نرى ان هذه الفكرة  تبدو متجسدة هنا .

القوارب رحلت عنا/ الركام الفناه / السدود ناينا عنها/ واعطينا الغرباء بيوتنا/ انحنينا لمقامهم كي يمروا/ نحن ابناء الموت / والخوف/ والتسكع في الكوابيس/لوحوا لنا من بعيد / فتوهمنا / ملامحهم غامضة /واقنعتهم تكشر عن انياب / يراها البعيد ضاحكة / القوارب /حملت امتعة طفولتنا/ والركام ثرثر بوجوهنا / نحن / ابناء الانتظار/ امهاتنا الخيبات / واباونا الندم/ تعلمنا الخسارات / فنمنا حتى الظهيرة / تحت سقوف الوعود،- وذلك ياتي عبر الجمع ما بين الضمائر المستترة والمنفصلة التي تحيل الى ضمير الجماعة وضمير المتكلم الغائب (عنا-الفناه –ناينا-اعطينا-احنينا- طفولتنا-وجوهنا-تعلمنا نمنا ) ثم محاولة الشاعراستحظار ضمير الغائب المتصل هم (مقامهم-ملامحهم- اقنعتهم) الذي يحيل الى الغرباء وايضا الى الضمير المنفصل نحن ،فالذات الشاعرة تعي جيدا الصلة القائمة والعلائق المرتبطة بين الضمير انا والضميرنحن الذي يبتدا وينتهي تكوينه الصوتي بحرف صفته الجهراذن من الضروري ان يتم الفصل فيما بينهما بحرف مختلف لتلك الصفة وهو الحرف المتمثل بحرف الحاء الذي ينمازبصفة الهمس ليتم من خلال ذلك التسلسل الصوت لا سيما ان حرف النون هو من الحروف التي تتسم بكونها واقعة ما بين الشدة والرخاوة وان هذه الميزة تسهل عليها توزيع الصوت بشكل دائري، فنرى هنا ان الدلالة الصوتية لضمير المتكلم جاءت متوافقة مع دلالالتها الوضعية ، فالذات الشاعرة تحمل هنا سمات من سبقوها فالضميرانا يبدو امتدادا الى النحن الذين لا تجدهم في منأى عن ما جرى سابقا فانا لا تتوانى عن القاء اللوم على النحن بدأ من امتطاءها الاحلام امتدادا الى عملها في المقابر، فوجه الشبه ما بينهما قائمة في مقارنة تكشف عن الارضية المشتركة الذي يبدوفيها المكان عنصراً ملازماً للمشهد الكلي للقصيدة، الذي يعلن انتماء الذات الشاعرة لمن سبقوها بكل بما يحملونه من مشاعرالقهر والخيبات وبكل الإشارات المنبعثة من المقابر التي لاتحمل سوى الموت

وينهض المعنى متجسدا في المقطع التالي الذي تكمن براعة الشاعر فيه من متح ادواته عبر بيئة تنطوي كل سماتها وخصائصها على الفقروالموت:اعمل عتالا- احمل يوميا عشرات الشموس/ ومئات الاقمار/ اكل رغيفا مرا بين الجثث/ واخذ لاهلي سلالا من غضب /هم ايضا عتالون /يحملون اكداسا من الفقر/ ينقلونها من حلم الى حلم / شتائهم ميت / وصيفهم مشنوق / هم الذين افترشوا ارصفة الحرب يلوكون انتظارا/ ويرددون ادعية /بين همس الجراح/ وضجيج الجوع الذي / اسكنهم مقبرة / لا يعرفون جارا/ولا يسمعون الا هياج العناكب /هم عتالون وانا عتال/ اعمل الان قرب مقبرة - ذلك من خلال تجسيده الضمائر بصيغة تبادلية عبر الاستعانة بضمير ثم التحول الى ضمير اخر عائد عليه على وفق الصورة والدلالة التي يريد طرحها فساهم في تحقيق الربط الاحالي والتركيبي الذي له اثر بارز في ربط السابق بالاحق جاء بالفعل (اعمل،احمل،اكل،اخذ)كلها ضمائر مستترة للمفرد المتكلم انا ثم الضميرالغائب المتصل للجماعة هم الذي يحيل على اهلي (شتائهم ، صيفهم) والضمير المتصل الهاء في ينقلونها ، وان تكرار ضمير الجمع هم مرات عديدة سواء كان بارزا اومستترا دلالة على المشاركة بالهم ذاته ، وان افتتاح البيت بعبارة اعمل عتالا قد ازال الابهام بوجود المتكلم فالقصيدة لها قيمتها من خلال اختيارها التفاعلية ما بين الانا والنحن ، غايتها تحقيق ترابط  بين العام والخاص وفي ظل هذا الوجود الثنائي يمكن قراءة تجلي الحدث الذي اصاب الجميع الذي تتكشف عبر هذه الابيات فيما بينهما من علائق بينة ترتكن في جلها الى الحروب.

ومن خلال امعان النظر في هذه الابيات التي اودع الشاعر فيها مزيدا من الاوصاف والتشبيهات التي تشكل الحرب فيها الدورالاساسي ما ادى تاثيرها في خلق اجواء القصيدة ككل :- مساءاتي/ تتارجح بين نخلة ونجمة / مساءاتي/ شواهد تبث رسائل للرمل/ وتغطي العواصف عورتها / لاتفتح صباحاتها الا بالدمع/ انا/ اعمل قرب مقبرة/يمر على الرفيف مخنوقا/ والجثث الطرية/ تلقي السلام على موقدي / وهو يرقد في قعر جرح/لي موعد يومي مع الارق/كي يتلو على شريط حياتي / ويختار ندما تلو اخر/ ينسج منها دثارا يضمني / حتى تلقي الشمس شباكها/ لاعتذر من الصحراء/ وانهض راكضا باتجاه عملي/ قرب مقبرة/لا اعرف المارة / وهم يصطادون بعيونهم طيور صمتي/ عرباتهم تئن/ وهم يدفعونها الى مصير مجهول / هم اشد عوقا من خيولهم / وانا/ اشد التصاقا منهم بخيبتي/هم اخذوا حصتهم من بذور الليل / وانا / ماتزال قطعة عالقة في ثيابي/منذ سنوات/وانا امضغ ترقبا/اشفقت الطيورعلي/وهي تراني اجمع شقوق النهار/ لانسج اجنحة / لست موهوما/لكنني اعمل قرب مقبرة / ارها تلثغ بحياة في ثكنة / ينهض اناسها عند الفجر للتدريب/ ويرحلون / حين يسيل الاخرون بينهم / لتاتي السلاحف/على ابواب حراساتها،- يمكننا ان نرى بوضوح القصد والرغبة في تغليب صوت الشاعر الذي يبدو حضوره جليا وذلك من خلال ضميرالمتكلم سواء كان تعبيرا صريحا من خلال تكرارالضمير انا او ضمير المتكلم الغائب المتصل الياء( مساءاتي-  موقدي -حياتي-يضمني- خيبتي)  والتي تنسب الى الواقع تارة وتناى عنه في الوقت ذاته عبر الاحلام، اما فيما يخص تكرار ضمير الجماعة المنفصل هم (عيونهم – عرباتهم-خيولهم - حصتهم)والاحالة تاتي هنا الى المارة فيبدو التشابه بينهم فهم يتصفون بالسمة ذاتها ، ويبلغ الضمير المتكلم المنفصل انا ذروته في تكراره مرات عديدة ولا سيما تكراراه في العمل قرب المقبرة ،فكل ما يطرحه الشاعر ويتجسد فيه الوصف عاليا من خلال تعينه جزيئات الموصوف للمساءات قرب المقابر ما ادى الى تزايد فاعلية الوصف بما يحمله من قيمة وظيفية اسهمت في اشراك المتلقي في الرؤية.

 ومما لا شك ان الشاعر في استعانته بجميع صياغات المجاز والتشبيه والاستناد على قرائن وتسميات خاصة بوصفها نقاط اثبات قد وفق في تشيد عالمه الشعري:شجيرة الورد /تطل علي من خلف تلة/توميء لي/وتبتسم/لها كف واصابع/لها لون الصحراء/وهو يزغرد/انا احبها// واتسلل اليها سرا/لاسقيها/والعب معها/هي وحيدة مثلي/لكنها لم تفطم بعد/لها فم يغني/وقلب ينبض/لها وجنتان/يسيل عليهما الندى/هي وحيدة خلف تلة/وانا/وحيد /اعمل قرب مقبرة- اذ ان الضمير المستتر الذي يحيل الى الوردة ياتي عبر الافعال(تطل ،تومىء، تبتسم) ، اضافة ان الضمير المنفصل لها يتكرر في المقطع 3 مرات نرصد هنا الرموز تتاتى من خلال الاستعانة بماديات معبرة فشجيرة الورد ترمز الى الوطن وهما يتشابهان في الوحدة، كما ان الافعال (جاؤوا- طوقوا- اطلقوا – داسوا يقتلوا- فتشوا-مضوا– منجرازتهم) تعود الى الضمير المتصل الواو والضمير الغائب هم –(احذيتهم ) وكلها نواتج ضمير يحيل الى الغرباء وهو المحتل الذين مجنزراتهم واحذيتهم تطال كل الاشياء في طريقها  تطال حتى الاشجار والنخيل والورود كما في هذه الابيات: الغرباء الذين جاءووا/ طوقوا الشجرة / اطلقوا الرصاص عليها/ وداسوا على جثتها بمجنزراتهم / لم تبك/ انا بكيت من قبوي/ ودفنت حماي في الرمال/وانا اشاهد شجيرتي الوحيدة / تتناهب الريح اوصالها / ويبعثر الغرباء الوانها/ باحذيتهم الثقيلة / انهم جاؤووا من بعيد/ليقتلوا وردتي/ فتشوا زوايا المقبرة / التي اعمل قربها/ومضوا يضحكون مني/ وانا ارتدي  قطع ليل/ وانام على الرمل- فمما لا شك ان المهمة التي يستهدفونها  من مجيئهم هو قتل الشجرة كما عمدوا الى اقنتاص الوردة وبترها التي تمثل هنا الضمائرالمتصلة (الهاء اوصالها –الوانها)وان تكرارالضمير المنفصل انا يمثل الذات الشاعرة التي تبكي وهي تشاهد الشجرة تتبعثر من قبل الغرباء والبكاء هنا محاولة رفض مقتلها على هذا النحو الظالم والدعوة الى حمايتها من العبث ، ان الشاعر يحاول هنا اعلاء صورة الوطن في البحث عن عبارات بديلة لترسيخ صور ورمز لم تخل من الجمال في الوقت الذي تتعرض فيه للموت والتهميش، فصورة الوطن رسمت بيد شاعر شفاف مرهف الحس وليس غريباً أن تتحول إلى مصدر خصب لخياله الذي حاول أن يقرب صورته إلى ذهنية متلقيه بأسلوبه الرقيق وان الفضل يعود حتما إلى الحب والحنين الذي الهب خيال الشاعرفكان مدركا عند توظيفه رمز الشجرة المتغلغلة جذورها في التربة باعتقادي كونها رمزيمثل الخضرة الدائمة فهي حتى عندما تتعرى من اورقها سنويا تجددها باوراق اخرى السنة القادمة،  ويقال عنها ايضا هي ترمز للحياة المتحولة باستمرار المتعامدة اتجاه السماء فهي بهذا تدل على الارتفاع والعلو.

كما يجد القارىء في المقطع الاتي ان الشاعر قد اخضع النص لقدرات تأويلية ذات علاقة وثيقة بالحروب من خلال الاستعانة بالرموز وتطويعها في خدمة ما يريد ايصاله واضاءة ما يذهب اليه مستعينا بادوات تظهر اثارها الواضحة : القوافل مرت/واخذت معها عيوني/ولم تدر الارض/حين حنط الليل اهاتنا/كم جلسنا على ارصفة/وعرفنا باعة متجولين/نمنا في الكراجات وقوفا/ننتظر فجرا / يحملنا الى قرانا/في جيوبنا شظايا/وعلى جباهنا/تركت الحرب بومها/القوافل مرت/والاصدقاء مروا/ وانا احلم بكراجات/وارصفة/وباعة متجولين/فانا الان / اعمل قرب مقبرة- مستعينا بالتنوع  في استخدام الضمائرمن المستترة الى المعلنة ونرى ان الشاعر يبتدا هذه الابيات بالضميرالمستتر (مرت – اخذت) التي تعود على القوافل ثم الاستعانة بضمير الجماعة الغائب المتصل الناء(اهاتنا-جلسنا-عرفنا- نمنا-يحملنا)ثم الضميرالمنفصل انا الذي يحيل الى احالة قبلية عائدة الى الذات الشاعرة ،ثم ان التحدث بضمير الجماعة الغائب وانتقال الشاعر من الفردية الى الجماعية في سبيل التحول الى التفاعلية في المشاركة (الجمع الفعلي ينقل الفعل من نشاط محدود ومنه الى نشاط غير محدود وغير منته وهي خصائص الكتلة)(عبد المجيد نوسي، التحليل السيميائي للخطاب  المغرب ،ص47)، ونرى على امتداد القصيدة ان الغنائية تغلف الرؤية الشعرية التي حتى الحرب لا تستطيع القضاء على شفافيتها وغنائيتها، فالقصيدة عند الشاعر منذر عبدالحر لها شروطها الخاصة المتمثلة بالانزياح عن كل ما هوثقيل نحولغة تتمتع بالسلاسة ، وفي اعتقادي ان الشاعر هنا يحاول انتهاك ستارالحرب التي لا تنفصل عن حياته الخاصة ففي حدود ما اعلم ان الشاعر قد عاصر الحرب واكتوى بنارها فيحاول ملاحقة اللحظات الهاربة من ايامها الثقيلة ، فنرى ان الشاعر يحمل ذهنية تعرف ادق تفاصيل الواقع ، فكل ما تنبض بها اجواء القصيدة في جزئياتها وتفصيلاتها ترسخ تجربة قدعاشها فقام بقراءة واقعها ومن ثم اصاغه شعرا ، فالحرب ليست مجرد مسالة شكلية تمضي من الذاكرة بمجرد انتهائها انما هي خيار ابداعي اختار الشاعرالاستمرار في طرحه كي يمنح الذات التعبيرعن داخلها ويمنحها شعوراً بالراحة ويعيد إليها بعضا من التماسك الداخلي، وفي اعتقادي ان الحفر مادام عميقا في الوجدان وفي الذهن لا بد ان تتعالى قصائد عديدة اخرى قادمة وهذا ما جعل اغلب الشعراء يواصلون الكتابة في هذا الاتجاه التي جاءت عبارة عن قصائد متشظية على ايقاع الحرب،وعلينا ان ناخذ في الحسبان ان التعامل مع اي نص ابداعي خرج من اتوان زمن الحروب والطغيان يختلف في طريقة طرحه عن اي نص اخر حيث ان القصيدة التي تتحرك نحو الحرب تكون على صعيد الصور والجمل والتراكيب منفتحة على ايحاءات ودلالات قائمة على توليفة عناصر وجمل وايماءات تغذي ايقاعتها وتضبط بنيتها من هذا الجانب، ولكن الاهم ان هذه القصيدة تعد اضافة على يد شاعر يتمتع بحس مرهف حيث بدا متمايزا يختلف عن ما سبقوه من التجارب الشعرية.

 اضافة الى ان قيمة الضمائرالمنفصلة انا ونحن وهم تاتي قيمتها حسب الوضع الذي ترد فيه اي حسب موقعها في السياق كما تسهم  في تحديد نظرة الذات الشاعرة الى ما حولها وقدرتها على تصويره :لم يعرفني احد/ وانا غارق بالتراب / الذي فر من السرفات/ صرت قبرا/وروضت نبضاتي على الصمت/اختفيت خلف شاهدة طفل/جملني الخوف/وانا احصي القبور / التي انفلقت/والجثث التي انتشرت/ القنابل لا تعبا بالموتى/ القبور تتهدم / وهم/يتقدمون بسرفاتهم فوقها/ انهم غرباء/ جاؤوامن بعيد/ليضعوا يدهم على فم الوطن/لا تصرخ / لاتشك/سركما اردنا لك/الى هدف لا تعرفه/انهم غرباء داسوا رؤوسنا/وتقدموا ليقتلعوا النخيل/وليصنعوامن القبور بيوتا/ للهاربين/الذين اراهم / وانا / اعمل قرب المقبرة- فان الضميرالغائب هنا في (يعرفني-صرت- روضت- اختفيت- جملني) والضميرالمنفصل انا كلها تعود على الذات الشاعرة التي تنتهي بالضميرالمنفصل انا اعمل قرب المقبرة، مما بدا الفعل السيري واضحا من خلال الحاح الشاعر على عبارة انا اعمل قرب المقبرة ، وهذا الالحاح يتنامى بالاطراد ويتفاقم بقدر ما ينال الذات الشاعرة من الموقع الذي يحتويها، والضمير المتصل للجماعة هم (بسرافاتهم–انهم) والواوالجماعة (جاؤؤوا- يضعوا – داسوا- تقدموا- يقتلعوا- يصنعوا) الاحالة هنا تعود على الغرباء،فالشاعر يبدو هنا حتى وهو يمارس الرمز شفافا لقارئه دون معاناة في فك شفراته فلقد منح قارئه خيطا رفيعا يتبع ما يريد ان يوصله اليه فهو يرسم رؤية ترى الاشياء من منظور واضح فهو لا يريد ان يتخفى خلف الاشياء فكل الاشياء بدت واضحة محاطة بطبقة شفافة وان القارىء المتمعن لا بد ان يصل الى المعنى المتواري خلفهما فالاثنان قد عانى المصيبة ذاتها ،وصورة الوطن بدت واضحة ،وان قراءة المتلقي هنا تتبع قرائن معينة  قد ازال الشاعر عنها الابهام والغموض في الذكر الصريح لكلمة الوطن التي جاءت هنا للتاكيد .

  ان عبارة اعمل الان قرب مقبرة التي تنتهي بها الابيات بدت للازمة تتكررعلى امتداد القصيدة فهي اضافة الى أثرها المباشر في جعل القصيدة متماسكة منذ بدايتها الى نهايتها فان تكرارها يمثل هنا انسب طريقة  لتحديد مسار القارىء وتوجهه الوجهة التي يريد الشاعر ايصالها، ففي هذا المقطع نرى ان الشاعر ينهي القصيدة بالعبارة ذاتها : الذين جاءوا خلفهم/ لم اشر اليهم/ انهم حاملوا ابواق/ سائرون الى حتف بارد/ انا اراهم من مزغلي/هم/ في الارض الحرام / انا الوحيد الذي يعرف ذلك/ لا اضحك منهم/ رغم انهم يضحكون مني/ قيل:/شاهدني احدهم / اعمل قرب مقبرة/ وقيل اتفقوا جميعا على محوي/ فانسل اسمي منهم/ كي اعرفهم اكثر/هم/ ليسوا غرباء/اعرف كل شيء عنهم / اعرف حتى قلوبهم / لكنني/مضيت الى المقبرة/اعمل/جرحت لساني/واججت اصابعي/اخبرتهم:/ ان لي منزلا هنا/فيه ابي وامي واخوتي/الذين ياما تفرقوا في خفايا الوطن/يبحثون عن فاس/يكسر جدار الجوع/هم على سفر دائم/كي يضلوا غرباء / انا معهم/ معهم/اعمل الان/ قرب مقبرة- كما أن هذا التعيين الثبوتي للمكان على امتداد القصيدة يجعل القارىء يدرك من ان الذات الشاعرة المطروحة بوضوح هنا في القصيدة هو ذاته الشاعر فعلاً في عالم الواقع، الشاعر الذي باتخاذه العمل قرب مقبرة راح يثقل كاهله بجملة من التصورات التي تحمل الموت والفناء، الا ان الذات الشاعرة في اعتقادي على الرغم من اختيارها الانزواء في العمل قرب مقبرة لكنها حاضرة في مستوى الحكم ، وهذه مزاوجة بين ما  موجود في الفعل وما موجود في الذهن ينادي فيها الشاعر راهنية القارىء وقربه من الحدث، فالكتابة ذاتها لا تخلوا حتما من مقاومة بل هي السبيل لتبديد حالة الياس حينما تتكشف بين ما عانته الذات الشاعرة في السابق وهي في ارض الحرام في اتون الحرب، وما تواجهه الان في الفضاءات الحالية من الضروب نفسها فهو جزءا من معانتها المستمرة التي تمثل ربما هنا المقبرة الحياة والوطن ذاته في ظل الحروب والاحتلال فهي مقبرة للذات الشاعرة في الحالتين معا، فراحت الذات الشاعرة تبحث عن طريقة تحميها من حياة باتت لا مجدية امام ذلك المسار نفسه فما دام الواقع القادم لا يحقق لها ما تتمناه من التغير فكان من الطبيعي ان لا تبارح عملها قرب المقبرة،  فالعين الشاعرة لم  تتوقف عند الرؤية الواصفة للقادم المحتل على زناجير انما راحت ترصد قدوم من جاء خلفهم الذين تجمعهم سمات مشتركة ، والحق ان هذه الصورة تشترك مع الصورة السابقة في الشهادة على راهن الحال والذات الشاعرة تمارس من خلال هذا مفهوم الرفض ويصبح كل ما يحيط بالذات الشاعرة في بؤرة المساءلة ،وانها في كليتهما رافضة الوضعين وهو امر اثر سلبا عليها جاعلا منها ترفض مغادرة العمل و يفسر بقاءها ضمن المحيط ذاته ، في اعتقادي ان الشاعر اتخاذه العمل قرب مقبره هو يحاول الهجاء لذاته والاخرون التي ليس لهم سوى الانزواء والاحتماء بالمقابر فاستعانة الشاعر من وراء العمل قرب من مقبرة تحمل التخفي والظهور في الان ذاته فهو يمارس لعبة الحظور حين يعلن تكرار الضمير انا مرات عديدة ولعبة التخفي تارة اخرى من خلال انزوائه للعمل قرب مقبرة وهذا لايمنع  من ان الذات الشاعرة من خلال التخفي تستطيع ان تسوق للمتلقي اخبار من جاؤوا، ومن هنا نرى الضمير المنفصل المتكلم المفرد انا يبدو على امتداد القصيدة عنصرا يحظى بالاهتمام من قبل الشاعر فهو الضمير الذي تنهض عليه عملية تبئير القصيدة وهو عامل اساسي في تحديد موقف الشاعر المبئر الخفي الذي من خلال عمله قرب المقابر يستطيع ان يعري ويحاكم ويفضح ما يحيط به وعلى هذا النحو تبدو المعادلة الاساسية تتجلى قائمة على امتداد القصيدة كلها .

و لا بد ان نشير في النهاية ما قلناه في البداية من ان كل نص له وضعه وسماته وان القراءت تعتمد على قارىء يعبرفيها عن تصوراته ورؤاه الذاتية التي يطرح افكاره ويوظفها ويفسرها ويقوم بفك شيفرة الرسالة التي يحملها النص الابداعي كلياً أو جزئياً حسب ما يناسبها, اضافة اعتماده على ذاتيته في فك الرموز،وهذه ما تجعل كل  قراءة تختلف عن الاخرى وتجعل لكل نص قراءات متعددة ، وهذا اعترافا منا من ان قراءتنا للقصيدة  نابعة من ذاتيتنا وانها حتما ليست القراءة الاخيرة للمجموعة ككل والتي لا بد ان تتبعها قراءات اخرى مختلفة.


مشاهدات 247
أضيف 2023/09/22 - 10:54 PM
آخر تحديث 2023/11/29 - 8:52 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 302 الشهر 614 الكلي 8928453
الوقت الآن
السبت 2023/12/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير