النـص : الناقد الراحل رزاق أبراهيم حسن .. من الطين الى رقم صعب في أسرة المبدعين
عبد الجواد المكوطر
في العهد الذي ولد فيه رزاق ابراهيم حسن كانت مدينة النجف الاشرف لايتجاوز حجمها حجم رغيف الخبز التفتوني ، مع هذا هي تتسع ببركة الله ، مثل بركة الماء حين يرمى بها حجرة فتشكل حلقات حلقة اوسع من حلقة .. لانها مدينة حاضنة لعشاق العلوم ..
فأذا كانت هوليود قادرة على جذب العيون على النظر والمتعة من خلال صناعة تلك الافلام التي تضخ في بطنها شتى صور الاغراء ومقاطع الجذب للااخلاقية من أجل كسب الشهرة والمال ..
وإن كان شارلي شابلن من خلال حركاته الصامتة أن يصنع له تاريخ لابئس به ، فأن النجف الاشرف بحشمتها وهيبتها وطهارتها وصغر حجمها هي عصا موسى القادرة ان تفعل بسحرها الرباني ماتشاء ، وتخلق من الطين كهيئة طير ليحلق في سماء الابداع بتغريده الفريد والعجيب .. فشرارة الابداع مركزها النجف الاشرف ، ومن يأخذه عشق الكتابة والشعر والصحافة والفن ... فما هي إلا ايام معدودات وتراه محلقاً بجناحيه في سماء الثقافة وصناعة الابداع المتعدد الجنسيات ..ليشغل العيون بمهاراته الفردية .
ومن تلك النخبة طلع رزاق ابراهيم حسن الذي ولد جسما بلا معنى وطلع من الدنيا أدسم معنى مؤثث بكل جواهر الثقافة ...
رزاق ابراهيم حسن منذ صباه وهو في غمرة العمل ( بِكِوَر الطابوق ) كان اذا شاهد قصاصة ورق عالقة على ظهر الطين هرول لانتشالها ثم مسحها بسرواله ثم قرأ محتواها ولو كان ليس له قيمة ، وهذا يعني ولع وجنون ووله في حب المعرفة ..
رزاق قد رزقه الله مايشتهي من أمنيات ، فتحققت الواحدة بعد الاخرى وهو مازال يمشي بين درابين النجف الضيقة في اطرافها الاربعة بثياب الطين ورائحة دخان معامل الطابوق الملتصقة بجسده وهو لايُعِير اهمية لذلك فيدلف مجالس الادب والشعر ويستاف من العبير الذي كان يرشح منها ..
عمل مع صديقه الراحل حميد المطبعي صاحب مجلة ( الكلمة ) في ستينيات القرن الماضي ثم غادر النجف ليكمل مشواره ببغداد التي وجد فيها ضالته ، فكانت الندوات والمقاهي تمنحه كل مساء ماتشتي ذاكرته .
رزاق أبراهيم سعى لما يرغب بأجتهاده الشخصي فأحتل المواقع التي كانت تدور في خلده في صفحات الصحف والمجلات حتى أصبح محررا فيها ومسؤولا في بعضها واخرها صحيفة الزمان الواسعة الصيت والانتشار الذي عمل بها اخر سنوات حياته مسؤولا عن صفحاتها الثقافية ..
واصل دراسته كي لايبقى تحت مطرقة النقص المعرفي او الفقر الاكاديمي الذي يتباهى به البعض ، فكان السباق لنيل المعرفة بكل ادواتها فاشترك في دورات صحفية وثقافية لتطوير مهاراته الابداعية خارج العراق وقد زار بلدان عديدة لذلك الغرض او للمساهمة في تقديم بعض المحاضرات هناك ..
رزاق ابراهيم كان مؤهل بكل العناوين ، فكان المعلم والاستاذ والاديب والشاعر والصحفي والناقد والمؤلف والمذيع ومقدم البرامج في أذاعة بغداد .. وكل ذلك لانه يمتلك سلامة اللغة وسرعة البديهية والخزين المعرفي والقدرة على الارتجال وفن الحديث والمناورة في الكلام .. لذلك كان كل مؤسسة يعمل بها تتمسك به تمسك الطين بالجذر ، لاحباً بشخصه فقط لكن طمعاً في افكاره وبانوراما أبداعه ..
عاش رزاق ببغداد لكن روحه ظلت تحوم كالطير حول وادي الغري وحلقات الدخان المتسربة من معامل الطابوق الى طيران النجف وذكواتها واسوارها ومجالسها وعمائمها وأسواقها واماكن بيع الكتب وغيرها . . لانه لايريد الفطام الدائم عن الثدي الذي ارضعه حليب الثقافة وكساه لحماً بعدما كان عظماً يستره ثوب العمل الذي ظل يتفاخر به طوال حياته ، لان العمل شرف . وقد كان اعظم مفكري ومثقفي وروائيين وشعراء العالم هم صباغو احذية في محطات القطارات .. لكن الارادة حولتهم الى عظماء يرقصون على مسرح التاريخ ..
رزاق ابراهيم ولد فقيراً ومات غنياً تاركا خلفه عمارات من
الكتب وسنادين لاحصر لها من ازهار المقالات في الصحف والمجلات ..
لااريد هنا ان اذكر اثاره التي تركها من كتب بشتى العناوين المعرفية اضافة الى دواوين الشعر المتعددة والمقالات التي بعدد اوراق الشجر .. لكن حبذت أن اعرج على الدول التي ظلت تفتخر بمبدعيها ابد الدهر ، مثل بريطانيا تفتخر ببرناتشو ، وفرنسا تفتخر بسارتر واسبانيا بغارسيا لوركا والمانيا بفريجل وتشيلي ببابلو نيرودا وتركيا بناظم حكمت ... فلماذا لانفتخر نحن برزاق أبراهيم وفريقه المعرفي الذين صنعوا تاريخاً مزهراَ لوطننا العراق ؟.
رزاق ابراهيم رغم ان وفاته كانت في وقت صعب ومحرج للغاية بكل دول العالم نتيجة جائحة كورونا التي خيمت ماساتها على الجميع إلا ان الاوساط الثقافية العراقية جميعها نعته ، وقد كانت مجلة ( ظلال الخيمة ) النجفية المستقلة سباقة في نعيه ورثائه .. تغمده الله فسيح جناته ، وكل عام يمر ورزاق ابراهيم ينعم برحمة الرحمن طالما ساقية ابداعه مازال يجري نميرها من خلال ابنه المحامي وسام وأبنته المهندسة رباب ....
|