الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي ومستقبل العراق

بواسطة azzaman

إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي ومستقبل العراق

محمد حسام الحسيني

 

نشر البيت الأبيض وثيقةً رسميةً لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة لعام 2025، وهي وثيقة تنشرها كل إدارة مرة واحدة على الأقل لمعرفة توجهاتها من ناحية الأمن القومي لكل منطقة، وبناءً على تلك الوثيقة تُحدَّد موازنات التسليح وموازنات الأمن الأخرى، والتموضع العسكري الاستراتيجي. وهي الوثيقة الإطارية العليا التي تُحدِّد كيف تفهم الولايات المتحدة أمنها ومصالحها، وكيف تستخدم كل أدوات قوتها لحماية تلك المصالح في الداخل والخارج. وسنبيّن الرقع الجغرافية حول العالم والرؤية الاستراتيجية الأمريكية تجاهها، وما يهمّنا من ذلك بالدرجة الأولى الشرق الأوسط والعراق.

منطقة النفوذ

على مستوى النصف الغربي من الكرة الأرضية، والذي يشمل كندا، والمكسيك، وأمريكا الوسطى، والكاريبي، وأمريكا الجنوبية، جرى اعتباره منطقة النفوذ الأولى للولايات المتحدة انطلاقًا من موقعه الجغرافي، مع التركيز على منع الهجرة غير الشرعية، وتفكيك شبكات المخدرات والجريمة المنظمة، ومنع نفوذ القوى الأجنبية في المنطقة، خصوصًا الصين وروسيا وإيران، ودعم الاستقرار الاقتصادي في الجوار لتقليل ضغط الهجرة، والتعامل بقوة مع الأنظمة التي تهدد المصالح الأمريكية (مثل فنزويلا).

على مستوى آسيا، والمقصود شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، والمحيط الهادئ، ركزت الاستراتيجية في هذه الرقعة الجغرافية على ضمان حرية الملاحة في المحيطين الهندي والهادئ، وخصوصًا بحر الصين الجنوبي، ومنع أي دولة، وخصوصًا الصين، من التحكم بسلاسل الإمداد أو المواد الاستراتيجية التي تحتاجها الولايات المتحدة، وتعزيز حضور أمريكي عسكري وتقني يردع التوسع الصيني، والعمل على موازنة الصين اقتصاديًا بدل محاولة تغيير نظامها السياسي، وتعزيز العلاقات مع اليابان، وكوريا الجنوبية، والهند، وأستراليا، والفلبين، وحماية التفوق الأمريكي في التكنولوجيا (AI، Quantum، Biotech).

أما على مستوى أوروبا، فقد ركزت الاستراتيجية على الحفاظ على تحالف قوي مع دول أوروبا، ودعم الثقة الحضارية الغربية والهوية الغربية المشتركة، ومطالبة الأوروبيين بزيادة الاكتفاء الذاتي الدفاعي وعدم الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة، والتعاون في مواجهة النفوذ الروسي، لكن دون جرّ أمريكا إلى التزامات أمنية مفتوحة، وتعزيز الشراكة الاقتصادية والتكنولوجية، خصوصًا في الطاقة والمعايير التقنية.

وبالنسبة لإفريقيا، لم تكن أولويةً أساسية في الوثيقة، واقتصرت الإشارة إليها على منع النفوذ الصيني والروسي، واستثمار الثروات الباطنية والمواد الأولية.

أما المنطقة الأهم بالنسبة للهدف من هذا المقال هي الشرق الأوسط، فقد ركزت الوثيقة على منع هيمنة قوى صنفتها الاستراتيجية معادية (إيران بالدرجة الأولى) على النفط والممرات الحيوية، وتجنب الحروب الأبدية، وتحديد التدخلات العسكرية وفق مصلحة أمريكية واضحة، ودعم الشراكات مع عدد من الدول التي اعتبرتها الاستراتيجية دولًا صديقة (السعودية، الإمارات، مصر، الأردن، إسرائيل)، والحفاظ على توازن قوى يمنع نشوء فراغ تستغله أطراف معادية، والمقصود هنا الصين، وعدم الانخراط في مشاريع بناء الدول أو محاولة تغيير الأنظمة بشكل مباشر، وضمان استقرار سوق الطاقة العالمي بما يخدم الاقتصاد الأمريكي.

لعل الإشارة إلى الشرق الأوسط في الوثيقة تبدو كما لو أن الولايات المتحدة لا تريد الانغماس في أزماته، مع وجود إشارة إلى أهمية الشرق الأوسط على مستوى أمن الطاقة وخطوط الملاحة والتجارة الدولية، وبالنسبة لفلسفة الإدارة الأمريكية الحالية تُعد هذه الأمور أولويات، ولكن هنا يطرح سؤال نفسه: هل من المعقول ألا يُعدّ الشرق الأوسط، بموقعه الجغرافي وثرواته، أولويةً في الاستراتيجية؟ وهل من المعقول ترك الشرق الأوسط عرضةً للنفوذ الصيني الذي تُعد مواجهته أولوية أولى؟ بالتأكيد الإجابة كلا، ولكن ما هو البديل؟البديل المتوقع والمنطقي هو تقوية دور ونفوذ الدول الصديقة التي أشارت إليها الوثيقة وسبق ذكرها، مع الابتعاد عن التدخلات العسكرية الكبيرة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مع وجود مساحات تدخل متاحة من خلال صلاحيات الرئيس الأمريكي في حال حدوث أخطار غير متوقعة. ومن جهة أخرى، فإن التطبيقات العملية لسياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد لا تتسق مع نصوص الوثيقة، وبالتالي فإن المتغيرات هي التي تحدد البوصلة العملية. ومن الأمثلة على ذلك، الوثيقة السابقة التي صدرت عام 2022 في فترة الرئيس بايدن، والتي لم تكن فيها أي إشارة إلى سوريا أو إلى توجه أمريكي لدعم سقوط أنظمة سياسية، ومع ذلك شهدت فترة رئاسة بايدن سقوط النظام السوري، وتسلّم الحكم من قبل قوى كانت تُحسب على المساحة المتشددة وعلى لوائح الإرهاب الأمريكية، في حين أن استراتيجية 2022 كانت من بين أهم أولوياتها مكافحة الإرهاب، وليس مكافحة الأنظمة الديكتاتورية، ومنها النظام السوري السابق.

فيما يخص العراق، وهو الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك حدودًا برية مع إيران، وبما يمتلكه من موقع جغرافي مهم وفرص استثمارية كبيرة، وقبل ذلك كله الثروات النفطية، فإن عدم ذكره، سواء في قائمة الدول الصديقة للولايات المتحدة أو حتى الدول المعادية لها، يُعد بحد ذاته مؤشرًا مهمًا لعدة احتمالات، منها: عدم حسم الملف العراقي حتى لحظة إعداد الوثيقة، وخصوصًا أن العراق عند صدور الوثيقة كان قد خرج من انتخابات نيابية ستعقبها سقوف زمنية دستورية لتشكيل حكومة جديدة، أو توقع تغييرات سياسية في العراق، أو إناطة ملف العراق بدول صديقة للولايات المتحدة في المنطقة، أو وجود رؤية أمريكية أو إقليمية تجاه العراق لا يُراد الإفصاح عنها، خصوصًا أن ما يُنشر في الوثيقة موجّه للإعلام ومتاح بكل تفاصيله المكتوبة والمعلنة.

اولوية امريكية

وتناقض هذه الاحتمالاتَ وجهةُ نظرٍ يتبناها عدد من صُنّاع القرار في العراق مفادها أن العراق لم يعد أولوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وهو رأي لا ينسجم مع الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية والتجارية للعراق التي أشرنا إليها.

ومن خلال مراجعة المقالات العراقية، والندوات، والأبحاث، والنصوص المترجمة المنشورة، والخطابات الحكومية والسياسية الرسمية، والنقاشات العامة الخاصة بالوثيقة، ومقارنتها مع الدول التي وصفتها الوثيقة بالدول المعادية أو الصديقة، نجد أن الدول التي وُصفت بالمعادية حظيت باهتمام أكبر، تليها الدول الصديقة باهتمام أقل، في حين يُلاحظ أن العراق هو الأقل اهتمامًا على جميع المستويات المشار إليها. وهذا بالتأكيد لا يصب في صالح مستقبل العراق، إذ يُفترض بالجهات الرسمية والبحثية والسياسية العراقية تحليل الوثيقة ووضع استراتيجيات تتسق معها بما يضمن مستقبلًا أفضل للعراق.

ومن المفترض على صُنّاع القرار في العراق قراءة الاستراتيجية بوصفها إنذارًا لا تطمينًا؛ فالعراق هو الساحة التي تتصادم فيها افتراضات الاستراتيجية الأمريكية مع الواقع العملي. لذلك، من الضروري وضع استراتيجية عراقية شاملة تنسجم مع حجم المتغيرات التي يشهدها العالم عمومًا والشرق الأوسط خصوصًا، وبناء الشراكات الإقليمية والدولية، والقيام بالإصلاحات المالية والمصرفية والأمنية والإدارية والقانونية، انطلاقًا من معيار المصلحة العراقية، ووفق رؤية واقعية تنهض بالدولة العراقية.

 

 


مشاهدات 37
الكاتب محمد حسام الحسيني
أضيف 2025/12/21 - 4:22 PM
آخر تحديث 2025/12/22 - 1:52 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 60 الشهر 15976 الكلي 12999881
الوقت الآن
الإثنين 2025/12/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير