الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
النقابات… من ولادة الحِرفة إلى صراع المواقع

بواسطة azzaman

النقابات… من ولادة الحِرفة إلى صراع المواقع

إسماعيل محمود محمد العيسى

 

لم تُولد النقابات المهنية بوصفها عناوين وجاهة أو منصات تنافس على المناصب ، بل نشأت كفكرة دفاع وبناء؛ تعود جذورها الأولى إلى ما عُرف تاريخيًا بـ“نقابات الحِرف” أو “الـ Guilds” في أوروبا خلال العصور الوسطى ، حين اجتمع أصحاب المهن كالبنّائين والحدادين والنسّاجين في تنظيمات تحفظ كرامة المهنة وتمنع الغش وتضبط الجودة وتحدد قواعد التدريب والتدرّج المهني ، من المتدرّب إلى الصانع ثم إلى الأستاذ؛ وكانت الغاية واضحة؛ حماية المهنة وأهلها ، وصيانة المنتج ، وتنظيم العلاقة مع السوق والسلطة المحلية ، لتصبح النقابة إطارًا يحمي المجتمع بقدر ما يحمي أصحاب المهنة؛ ثم جاءت الثورة الصناعية فوسّعت المعنى ، فظهرت النقابات الحديثة بوصفها مؤسسات تمثيلية تسعى لتحسين شروط العمل وتنظيم الحقوق المهنية وتوفير شبكات دعم لأعضائها؛ ومع الزمن أثبتت التجارب أن وجود نقابات قوية ومهنية ومستقلة يخلق طبقة وسطى أكثر تماسكًا ، ويمنح الدولة شريكًا مجتمعيًا قادرًا على الإسناد لا المشاكسة ، وعلى الإصلاح لا المناكفة .

في العراق ، وضمن مسار تطور الدولة الحديثة ، وُجدت قبل عام 2003 نقابات مهنية معروفة كالمحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين والصحفيين وغيرها؛ وكانت تعمل وفق الأطر القانونية والتنظيمية السائدة آنذاك ، كما أن البيئة السياسية العامة كانت تؤثر بطبيعتها في تفاصيل الإدارة والاختيار والمساحة المتاحة للعمل المهني ، وهو ما انعكس على مستوى الاستقلالية والمبادرة واتساع الدور؛ ومع ذلك ظلت النقابات قائمة بوصفها مؤسسات منظمة تمثل أصحاب المهن ضمن حدود المرحلة ومتطلباتها .

 

وبعد عام 2003 ، ومع التحولات السياسية والدستورية التي شهدها العراق ، توسع عدد النقابات والاتحادات المهنية ، ولا سيما في المجالات الفنية والتقنية والتخصصية الحديثة؛ وكان هذا الاتساع فرصة ثمينة لبناء عمل نقابي معاصر يواكب احتياجات السوق ويؤسس للتدريب والاعتماد المهني وحماية المهنة من الدخلاء؛ غير أن المتابع للمشهد يلاحظ في بعض التجارب تركيزًا كبيرًا على المواقع القيادية ، وتنافسًا إداريًا محتدمًا ، يتقدم أحيانًا على النقاش الجاد حول الرؤية المهنية والبرنامج والخدمات؛ فتبهت الغاية الأصلية للنقابة أمام ضجيج الكرسي ، وتضعف الفاعلية أمام استنزاف الطاقات في الداخل بدل توجيهها إلى خدمة الأعضاء وتطوير المهنة .

ويزداد الأمر حساسية حين تنتقل الخلافات من إطارها الطبيعي بوصفها اختلافًا في وجهات النظر إلى خلافات تنظيمية حادة لا تُدار بأدوات مؤسسية رصينة؛ لأن النقابة الفتية تحديدًا تحتاج في سنواتها الأولى إلى تهدئة الإدارة لا تسعيرها ، وإلى بناء الثقة لا كسرها؛ فالتناحر الداخلي يوقف المبادرات ، ويعطل اللوائح ، ويشتت الأعضاء بين اصطفافات لا تنتج خدمة ولا تضيف قيمة ، ويترك المجتمع أمام كيان مهني بلا أثر ملموس؛ والنقابة التي تفقد وحدتها التنظيمية في البدايات غالبًا ما تتعثر قبل أن تكتمل بنيتها ، فتضيع الفكرة وتتحول المؤسسة إلى عنوان بلا مضمون .

ومن أهم ما يهدد الدور الحقيقي للنقابات تداخل المهني بالسياسي على نحو يُفقد النقابة حيادها؛ فالنقابة بطبيعتها مظلة لجميع المنتسبين على اختلاف رؤاهم ، وكلما اقتربت من الاستقطاب تراجعت قدرتها على تمثيل الجميع بعدالة ومهنية؛ النقابة القوية هي التي تحافظ على مسافة واحدة من الجميع ، وتضع المصلحة المهنية العامة فوق الاعتبارات الآنية ، وتبني قراراتها على البرامج والخطط والمعايير ، لا على المزاج والانفعال؛ لأن الدولة تحتاج نقاباتها رافدًا مجتمعيًا داعمًا ، يقدّم الخبرة وينظم المهنة ويسند الاستقرار ، لا ساحة تجاذب تُفقد المجتمع أحد أهم أدواته التنظيمية .

إن كثرة النقابات بعد 2003 لا تعني بالضرورة قوة العمل النقابي ما لم تقترن ببناء مؤسسي واضح؛ لوائح داخلية دقيقة ، وحوكمة شفافة ، وآليات انتخابات ونزاهة تنظيمية ، ولجان مهنية للتطوير والتدريب والانضباط ، وخطة استراتيجية تقاس بمؤشرات أداء لا بالشعارات؛ فالنقابة ليست منصبًا ولا وجاهة اجتماعية ، بل مسؤولية مهنية وأخلاقية ، عنوانها خدمة الأعضاء وحماية المهنة وتطويرها ، وصناعة أثرٍ يراه الناس في جودة العمل وفي انضباط السوق وفي فرص التدريب والتشغيل .

وفي نهاية المشهد تبقى الرسائل أوضح من أن تُجمّل؛ إلى أعضاء النقابات؛ طالبوا بالبرامج لا بالأسماء ، وراقبوا الأداء لا الخطابة ، ولا تسمحوا بأن تتحول نقابتكم إلى حلبة تستهلككم؛ وإلى القيادات النقابية؛ المنصب تكليف لا تشريف ، والموقع وسيلة لخدمة المهنة لا غاية قائمة بذاتها؛ وإلى القوى السياسية؛ مصلحة الدولة أن تبقى النقابات مستقلة مهنية جامعة ، لأن تسييسها يضعفها ويضعف المجتمع معها؛ وإلى الحكومة؛ دعم النقابات الفتية يكون بتوفير بيئة قانونية ضامنة وتشجيع التدريب وبناء القدرات وحماية الاستقلال المؤسسي ، دون تدخل في الشأن الداخلي؛ فحين تستعيد النقابة بوصلة نشأتها الأولى ، تعود رافعة بناء لا عنوان صراع ، وتصبح شريكًا حقيقيًا في ترميم ما أنهكته السنوات من ضعف المهنة وتشتت المجتمع .


مشاهدات 21
الكاتب إسماعيل محمود محمد العيسى
أضيف 2025/12/21 - 3:35 PM
آخر تحديث 2025/12/22 - 2:17 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 80 الشهر 15996 الكلي 12999901
الوقت الآن
الإثنين 2025/12/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير