الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من الجريمة إلى الجذر

بواسطة azzaman

من الجريمة إلى الجذر

فاروق الدباغ

 

جريمة إحراق الطبيبة الشابة من مدينة الموصل على يد طليقها، وهو طبيب أيضًا، لم تمر كخبر عابر. خلال ساعات قليلة اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي في العراق وخارجه، وتحوّل الحدث إلى صدمة رأي عام، ليس فقط بسبب بشاعة الفعل، بل بسبب دلالته الرمزية العميقة: طبيبان، من قلب المؤسسة الصحية، من المفترض أنهما في طليعة الفئات وعيًا بحقوق الإنسان والحياة، ينتهيان إلى مشهد وحشي يكشف انهيارًا أخلاقيًا ومعرفيًا لا يمكن اختزاله في خلل فردي.

هذه الجريمة تضع المجتمع أمام سؤال مؤلم لكنه ضروري: كيف يمكن لإنسان متعلم، يحمل شهادة علمية ومكانة اجتماعية، أن يتحول إلى أداة قتل؟ الجواب لا يكمن في توصيف نفسي سريع، بل في بنية تربوية واجتماعية أخفقت طويلًا في بناء الوعي بالجسد، بالعاطفة، وبحدود العلاقة الإنسانية منذ الطفولة. فالشهادة لا تصنع وعيًا إنسانيًا، والمهنة لا تمنح بالضرورة نضجًا عاطفيًا أو قدرة على إدارة الخلاف أو الفقدان.

في مجتمعاتنا، يكبر الأطفال في بيئة تتعامل مع الجسد بوصفه عيبًا، ومع الأسئلة الطبيعية بوصفها تهديدًا للأخلاق، ومع المشاعر بوصفها ضعفًا يجب قمعه. الصبي يتعلم السيطرة بدل الشراكة، والكتمان بدل التعبير، فيما تُقدَّم الأنوثة له كشيء يجب امتلاكه أو ضبطه. أما الفتيات، فيمررن بتجارب حساسة مرتبطة بالبلوغ والجسد والعلاقات دون أي تهيئة معرفية أو نفسية، في ظل مؤسسات تعليمية ما تزال تتجنب الخوض في هذه القضايا، وتعيد إنتاج ثقافة الصمت بدل الوعي.

هذا الصمت لا يحمي القيم، بل يفرغها من معناها. فالتربية الجنسية، بمعناها العلمي والاجتماعي، لا تعني كسر الأخلاق أو الترويج للانفلات، كما يُشاع، بل تعني بناء فهم صحي للعلاقة بين الجسد والنفس، بين الرغبة والمسؤولية، بين الحب والاحترام، وبين الخلاف والانفصال دون عنف. هي تربية على الحدود، على القبول، وعلى أن الرفض ليس إهانة، وأن نهاية علاقة لا تعني امتلاك الحق في تدمير الآخر.

غياب هذا النوع من الوعي يجعل الزواج، في كثير من الحالات، ساحة لإسقاطات نفسية مكبوتة، لا شراكة ناضجة بين شخصين. وعندما تفشل العلاقة، يتحول الطلاقالذي يفترض أن يكون حلًا حضاريًاإلى جرح نرجسي عميق لدى طرف لم يتعلم يومًا كيف يتعامل مع الفقدان أو مع فكرة أن الآخر كيان مستقل لا ملكية خاصة. هنا يتقاطع الجهل العاطفي مع ثقافة ذكورية تبرر السيطرة، ومع صمت اجتماعي يساوي بين الرجولة والعنف، فتكون النتيجة انفجارًا دمويًا كما رأيناه في الموصل.

تنظيم العلاقة بين الزوجين وفق معايير المجتمع الحديثة لا يعني استيراد نماذج جاهزة أو التصادم مع الخصوصية الثقافية، بل الاعتراف بحقيقة بسيطة: الإنسان كائن نفسي–اجتماعي، لا يُبنى بالمنع وحده ولا يُضبط بالتابوهات. نحتاج إلى تعليم الفتيان منذ الصغر معنى الشراكة لا الامتلاك، وتعليم الفتيات أن أجسادهن وحدودهن ليست موضع تفاوض أو وصاية. نحتاج إلى مناهج تعليمية تتحدث بوضوح علمي وأخلاقي عن البلوغ، العلاقات، الزواج، إدارة الخلاف، والانفصال، بدل ترك هذه المساحات الحساسة للجهل أو للمصادر المشوهة أو لثقافة العيب.

الجريمة التي هزّت الموصل ليست فقط مأساة فردية، بل إنذار اجتماعي صارخ. إن لم نواجه جذورها المعرفية والتربوية، سنظل نلاحق النتائج: بيانات شجب، غضب عابر على منصات التواصل، ثم نسيان إلى الجريمة التالية. الوعي الجنسي والاجتماعي ليس ترفًا فكريًا، بل شرط أساسي لحماية الحياة، ولمنع أن يتحول الفشل العاطفي إلى عنف قاتل، وأن يتحول العلم بلا وعي إلى خطر على صاحبه وعلى المجتمع بأكمله.

 


مشاهدات 48
الكاتب فاروق الدباغ
أضيف 2025/12/19 - 9:27 PM
آخر تحديث 2025/12/19 - 11:05 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 609 الشهر 14308 الكلي 12998213
الوقت الآن
الجمعة 2025/12/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير