الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العراق وسيزيف .. بلد يدفع خمس صخور ولا يصل إلى القمة

بواسطة azzaman

العراق وسيزيف .. بلد يدفع خمس صخور ولا يصل إلى القمة

أسامة أبو شعير

 

في الميثولوجيا الإغريقية، عُوقِب الملك سيزيف لأنه تحدّى الآلهة بأن يدفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل، وما إن يوشك أن يبلغ القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى الأسفل ليبدأ من جديد. كانت عقوبة عبثية أبدية، رمزًا لمعاناة الإنسان حين يواجه عملًا لا نهاية له ولا ثمرة فيه.

اليوم، يشبه العراق حال سيزيف، لكن مع فارق مهم: سيزيف كان يُعاقَب بصخرة واحدة، أما العراق فيدفع خمس صخور ثقيلة في آنٍ واحد — سياسية، طائفية، تعليمية، اجتماعية، واقتصادية — وكلما بلغ القمة، تتدحرج الصخور لتعود به إلى سفح الجبل.

السياسة: صخرة المحاصصة

منذ عام 2003، تأسست العملية السياسية على مبدأ المحاصصة الطائفية لا على مبدأ الدولة الوطنية. وبحسب البنك الدولي، ما يقارب 70بالمئة من الوظائف الحكومية تُوزّع وفق الولاءات الحزبية لا الكفاءة. هذه الصيغة جعلت السياسة أداة لتقاسم السلطة والثروة، لا وسيلة لبناء الدولة. أزمة 2021 مثال واضح، إذ بقي العراق نحو عام كامل من دون حكومة فعّالة، ما شلّ المؤسسات العامة وعمّق فقدان الثقة الشعبية.

الطائفية: صخرة الانقسام

الطائفية ليست مجرد خطاب سياسي، بل ممارسة تُفكك الهوية الوطنية. وفق استطلاع المؤشر العربي (Arab Barometer) عام 2023، 53بالمئة من العراقيين يعرّفون أنفسهم أولًا بانتماءاتهم الفرعية قبل هويتهم العراقية الجامعة. هذه الهوية الممزقة تجعل أي مشروع وطني عرضة للانهيار عند أول أزمة، وتفسّر لماذا تتكرر دوامة العنف والاقتتال عند كل احتكاك سياسي أو أمني.

نموذج إقليمي

التعليم: صخرة الفرص الضائعة والتجهيل

في السبعينيات، كان العراق نموذجًا إقليميًا؛ نسبة الأمية أقل من 10بالمئة وفق اليونسكو. اليوم، تشير بيانات وزارة التخطيط (2023) إلى أن 20بالمئةمن العراقيين أميون، وأكثر من 3.2 مليون طفل خارج المدارس. الجامعات، التي خرّجت عقولًا بارزة في المنطقة، تعاني من هجرة الكفاءات، إذ يسعى 60بالمئة من الأساتذة الشباب للهجرة بسبب ضعف الرواتب وغياب البيئة البحثية.

لكن الأخطر من الأمية هو التجهيل المنهجي؛ إذ لا يكفي أن يدخل الطالب المدرسة إذا كان يتخرّج بلا مهارات تفكير نقدي أو وعي وطني. تقارير اليونسكو تضع العراق في المراتب المتأخرة عالميًا في مهارات القراءة والرياضيات، ما يعكس نظامًا يكرر الحفظ على حساب الإبداع. والنتيجة جيل يحمل شهادات بلا معرفة، وأحيانًا معرفة بلا وعي، وهو ما يعمّق هشاشة المجتمع أمام الطائفية والتطرف.

ورغم قتامة المشهد، ظهرت مبادرات محلية مهمة، مثل منصات eduba للتعليم الرقمي، ومراكز محو الأمية التي يديرها متطوعون في النجف والأنبار. أما في البصرة، فقد نفذت منظمة الفردوس بالتعاون مع Mercy Corps برنامج “محو الأمية للنساء”، الذي يصل إلى نحو 2000 مشاركة سنويًا، ما يثبت أن بذور التغيير يمكن أن تنمو حتى وسط الأزمات.

الاجتماع: صخرة التفاوت والجهل الاجتماعي

المجتمع العراقي يعيش أزمة متعددة الأبعاد. أكثر من 27بالمئة من الشباب بلا عمل (البنك الدولي، 2024)، بينما يشكل الشباب دون 25 عامًا 60بالمئة من السكان. هذه الكتلة، التي كان يمكن أن تكون رافعة النهضة، تحولت إلى وقود للبطالة والهجرة. وتشير مفوضية اللاجئين إلى أن العراقيين ضمن أكثر خمس جنسيات طلبًا للجوء في أوروبا عام 2023.

قوى سياسية

الجهل هنا ليس أمية فقط، بل أيضًا ضعف وعي سياسي واجتماعي.

فحين يغيب التعليم النوعي، يسهل على القوى السياسية استغلال الولاءات الفرعية وتوجيه الناس بخطابات انفعالية. ويصبح المواطن عاجزًا عن محاسبة الفاسدين أو الدفاع عن حقوقه، ليبقى في دائرة الاستهلاك والانتظار. الاقتصاد: صخرة الريع النفطي

رغم أن العراق يمتلك رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، إلا أن اقتصاده لا يزال رهينة للريع. يشكّل النفط 98بالمئة  من إيرادات الموازنة (وزارة المالية، 2024)،فيما يُنفق أكثر من 80بالمئة من الميزانية على الرواتب والدعم.

هذا يعني أن أي هبوط في أسعار النفط يهدد الاستقرار المالي مباشرة. أما الفساد، فبحسب تقرير لجنة النزاهة البرلمانية (2023)، يُهدر ما بين 10 و15 مليار دولار سنويًا.

في المقابل، نجحت النرويج في تحويل عائداتها النفطية إلى صندوق سيادي يتجاوز تريليون دولار، بينما العراق، الذي تجاوزت عائداته النفطية منذ 2003 تريليون دولار أيضًا، لم يتمكّن حتى الآن من بناء صندوق مستدام يحمي أجياله المقبلة. هذه المفارقة تكشف حجم الخسارة التاريخية الناتجة عن سوء الإدارة.

هل المصير أبدي؟

الفارق أن سيزيف في الأسطورة محكوم بعقوبة أبدية، بينما العراق ليس قدره أن يبقى أسير هذه الدوامة. فبرغم الحروب والحصار في التسعينيات، ظل العراقيون قادرين على إحياء الثقافة والتعليم والحياة اليومية. وهذا يعني أن إمكانية الخروج من دائرة العبث قائمة متى ما تغيّر الاتجاه.

من التشخيص إلى الحلول

لكي يتحول العراق من أسطورة عبثية إلى قصة نهضة، لا بد من حزمة حلول مترابطة، مع إدراك صعوبات التنفيذ:

1. إصلاح سياسي: تعديل قانون الانتخابات لتقليل هيمنة المحاصصة، وبناء مؤسسات حيادية. لكن هذا يتطلب مواجهة مقاومة النخب المستفيدة من الوضع الحالي، وهو تحدٍّ هائل.

2. تماسك اجتماعي: تعزيز الهوية العراقية الجامعة عبر الإعلام والمناهج، على غرار تجربة رواندا. لكن هذه الخطوة تصطدم بخطابات دينية وسياسية متجذرة تحتاج لسنوات من العمل الثقافي.

3. نهضة تعليمية: الاستثمار في التعليم النوعي الذي يعلّم التفكير النقدي، مع حوافز لعودة الكفاءات. لكن ذلك يتطلب موارد إضافية، وهو أمر صعب في ظل اعتماد الموازنة بنسبة 98% على النفط.

4. تنويع اقتصادي: استثمار في الزراعة والصناعة والتكنولوجيا. تجارب مثل السعودية مع رؤية 2030 تقدم نموذجًا، لكن تطبيقها في العراق يحتاج إلى استقرار أمني مفقود حتى الآن.

5. مكافحة الفساد: تقوية القضاء وربط الإنفاق بآليات شفافة. هذا ممكن نظريًا، لكن من دون إرادة سياسية قوية ستظل القوانين حبرًا على ورق.

6. قوة الشباب والحركات المدنية: رغم كل التحديات، يظل الشباب العراقي نقطة الأمل الكبرى. من احتجاجات ساحة التحرير إلى المبادرات الثقافية والتعليمية في المحافظات، أثبتوا أنهم قادرون على ابتكار بدائل ورسم مسارات جديدة. هذه الطاقة المدنية لا تزال مهمّشة، لكنها قد تكون القوة التي تغيّر المعادلة، إن حصلت على الدعم والحماية.

الخاتمة: من صخرة إلى جسر

العراق اليوم أمام مفترق طرق. إما أن يظل حبيس أسطورة سيزيف، حيث تتدحرج الصخور كلما بلغ القمة، أو أن يحوّل هذه الصخور إلى جسر نحو مستقبل مختلف. التغيير لن يأتي من الخارج ولا من “آلهة الأساطير”، بل من قرار داخلي يضع المواطن قبل الطائفة، والكفاءة قبل الولاء، والعلم قبل الريع، ويكسر دائرة الجهل والتجهيل.

حينها فقط يمكن أن نتخيل سيزيف العراقي لا بائسًا يدفع صخرة عبثية، بل إنسانًا يحوّل الصخرة إلى سلّم يصعد به نحو النهضة.

خبير اقتصادي ومستشار دولي في التعليم والتنمية


مشاهدات 50
الكاتب أسامة أبو شعير
أضيف 2025/11/03 - 12:45 AM
آخر تحديث 2025/11/03 - 1:04 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 423 الشهر 1942 الكلي 12363445
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير