الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
القانون والأخلاق في سلوك الفقيد عبد الوهاب التحافي

بواسطة azzaman

نموذج للالتزام العملي بالمبادئ

القانون والأخلاق في سلوك الفقيد عبد الوهاب التحافي

 

امير كريم النائلي

 

 

قبل يومٍ، غيَّب الموت رجلًا من رجال العراق الذين عاشوا مخلصين لمبادئهم حتى آخر لحظة من أعمارهم. رحل اللواء المتقاعد عبد الوهاب عبد الرزاق التحافي عن عمرٍ ناهز الاربع والثمانين عامًا، بعد مسيرةٍ طويلة امتدَّت لأكثر من نصف قرنٍ في خدمة الأمن والعدالة والكرامة الإنسانية.

شكَّل الفقيد عبد الوهاب التحافي نموذجًا فريدًا في الجمع بين الفكر القانوني النزيه والسلوك الأخلاقي العملي، إذ جسَّد ما آمن به من مبادئ على أرض الواقع، فكان مثالًا للالتزام والصدق في القول والعمل.

بدأت معرفتي بالمرحوم عندما كان أستاذي في دورة الدبلوم العالي في القانون الجنائي، حيث تولَّى تدريس مادة التحقيق الجنائي. ومنذ ذلك اللقاء الأول، ترك في نفسي أثرًا عميقًا بطريقته العلمية الهادئة، وبقدرته على المزج بين الصرامة والانفتاح الفكري.

وبعد التخرّج، لم تنقطع صلتي به، بل كنت أواظب على زيارته في داره، أجلس أمامه مستمعًا إلى خبراته الطويلة في ميدان الشرطة العراقية منذ ستينيات القرن الماضي. كانت أحاديثه مدرسةً في النزاهة والإنسانية، ومصدر إلهامٍ لي في حياتي العلمية والعملية، وقد أثمرت علاقتي به اشتراكنا في إصدار مؤلَّفٍ بعنوان “القانون الدولي للشرطة”، استلهمت فيه الكثير من فكره العميق ورؤيته المتقدّمة.

لم يكن اللواء عبد الوهاب التحافي ضابطًا تقليديًا، بل كان ضميرًا حيًّا داخل المؤسسة الأمنية. امتاز بمواقفه الثابتة تجاه الأخلاق وحقوق المتهم وحقوق الإنسان، حتى حين كانت تلك المواقف تصطدم بالعرف السائد أو المسلك الإداري المتشدِّد.

وفي مسيرته الطويلة، عُرف بانضباطه العالي، وأخلاقه الرفيعة، وإنسانيته التي لم تنفصل يومًا عن واجبه المهني. كان يرى أن احترام القانون لا يتحقَّق إلا باحترام الإنسان أولًا.

أسهم الفقيد في بناء وتطوير مؤسسات وزارة الداخلية، وكان له دورٌ بارز في تأسيس المعهد العالي للتطوير الأمني والإداري، الذي أُنشئ بناءً على مقترح قدَّمه بنفسه. كما كان وراء فكرة تحديد التاسع من كانون الثاني (يناير) من كل عام يومًا رسميًا لتأسيس الشرطة العراقية بعد أن كانت المناسبة تُصادف الأول من نيسان، وهو أوَّل من ساهم في استحداث مكتب مكافحة المخدرات ومديرية التوجيه المعنوي.

كتب مئات المقالات والبحوث والمقترحات التي تناولت قضايا الأمن والتحقيق وحقوق الإنسان، وظل يؤمن بأن الفكر والأخلاق هما السلاح الأقوى في وجه الفوضى. وكان يقول دائمًا عبارته التي حفرت في ذاكرتي:

الطائفية منقصة الرجال.”

أما مواقفه العملية فكانت تترجم قناعاته بأفعالٍ صادقة.

ففي أحد الأيام، تلقّى اتصالًا من وزارة الداخلية يُبلغه بأن مديري مكافحة الاجرام جالسون في الوزارة يعتزمون تقديم شكوى ضده لأنه منع برنامجًا تلفزيونيًا يعرض المتهمين قبل محاكمتهم. وعندما سُئل عن السبب، أجاب بهدوءٍ وثقة:

صفة مجرم

هذا الإجراء غير قانوني. قد يُفرج عن المتهم لاحقًا، فكيف سيكون موقفه أمام أهله وأقربائه وباقي الناس بعد أن ظهر على الشاشات بصفة مجرم؟

فنال احترام من خالفوه قبل من وافقوه.

وفي موقفٍ آخر، حين سُئل من قبل لجنةٍ تفتيشية عن قلّة عدد الموقوفين في المركز، قال:

قلة الموقوفين دليل على الإنجاز والحسم، لا على التقصير، أمّا كثرتهم فهي علامة على البطء وضعف الأداء.”

ولم ينسَ أحد موقفه في السبعينيات من القرن الماضي، عندما كان يحقق مع أخطر عصابة في المخدرات، وبعد انتهاء التحقيق استجوبه مدير الأمن العام، المعروف بعنجهيته، وسأله عن سبب عدم اعتراف رئيس العصابة ولماذا لا يتم التعمّق معه في التحقيق بتعذيبه، فردَّ عليه التحافي:

التحقيق جارٍ وفق القانون، ولا حاجة للتعذيب، فالأدلّة كافية لإدانته حتى وإن لم يعترف.”

فكان ردّ مدير الأمن العام: “هل ستكون مسؤولًا عن كلامك في حالة الإفراج عنه من المحكمة ؟

فأجاب المرحوم التحافي بكل شجاعة: “نعم.”

وفعلًا، ومن الطريف أن المتهم الذي لم يعترف هو الوحيد الذي حكمت عليه المحكمة بأقسى عقوبةٍ في القانون من بين زملائه، لتؤكّد صحّة نهجه وثباته على مبدئه.

ومن مواقفه بعد عام 1968، عندما نُقل إلى قسم التحقيق الاقتصادي، أنه قام بحملةٍ شاملة لإلغاء كل قيدٍ لم يستند إلى حكمٍ قضائي مكتسبٍ الدرجة القطعية، وإلغاء كل أمر قبضٍ مستندٍ إلى مخبرٍ سري مجهول أو غير موثوق أو إشاعةٍ، وغير ذلك.

اخلاق وقانون

وقد كتب لنا في محاضراته ما نصّه:

فهمتُ أن التحقيق دينٌ وأخلاقٌ وقانون، كما يتطلّب علمًا وفنًّا وأصولًا، وهو جهدٌ عقليٌّ قبل أن يكون جهدًا عضليًّا… يحتاج إلى بصيرةٍ نافذة، وذكاءٍ غير عادي، وملكةِ حدسٍ، وضميرٍ حيّ، قبل أن يحتاج إلى (عينٍ حمرة) أو (عصا غليظة) أو (عضلاتٍ مفتولة).”

وكان يقول: “كثيرٌ من المتهمين الذين حققنا معهم صاروا أصدقاء لنا بعد أن أُفرج عنهم، لأننا راعينا قواعد القانون والنزاهة في التحقيق معهم.”

هكذا كان التحافي: ضابطًا يوازن بين العقل والضمير، بين الواجب والرحمة، وبين القانون والإنسان. لم يكن يرى في المنصب سلطةً، بل مسؤولية، ولا في القوة أداةً للقهر، بل وسيلةً لحماية الضعيف.رحل اللواء عبد الوهاب عبد الرزاق التحافي، وبقيت سيرته شاهدة على أن الإنسان يمكن أن يكون قويًا دون قسوة، وعادلًا دون تجبّر، ومخلصًا دون أن يبحث عن مجدٍ شخصي.سلامٌ عليه يوم وُلِد، ويوم خدم وطنه بصدق، ويوم رحل تاركًا أثرًا طيبًا في نفوس من عرفوه ودرسوا على يديه.

 

 


مشاهدات 52
الكاتب امير كريم النائلي
أضيف 2025/10/24 - 9:24 PM
آخر تحديث 2025/10/25 - 12:42 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 39 الشهر 16500 الكلي 12156355
الوقت الآن
السبت 2025/10/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير