من عبيد الطبيب إلى عبيد السياسة

أحمد جاسم الزبيدي

في مدينتي الصغيرة، الهادئة بطبعها، والمفعمة بعاداتها وتقاليدها التي لا تشبه سواها، كان أول مستوصف طبي يُسمّى (الإنعاش الريفي) ذلك الذي أسسه الأمريكان في خمسينيات القرن الماضي. وكما تقول والدتي رحمها الله، (لولا أن غازي، زوج أختك، جاب مرهم من الأمريكان، جان اليوم أنت أعمى)،  فقد أصبت وأنا في عامي الأول بالرمد، ونجوت ببركة المراهم الأجنبية !

لكن حديثي اليوم ليس عن الطب الحديث، بل عن (الطب الشعبي) وأبطاله الذين ملأوا مدينتنا.

فكان لدينا رجل اسمه عبيد الطبيب، وهو -ويا للعجب - لم يكن طبيبًا ولا حتى مضمدًا، بل فراشًا عند الطبيب! غير أن الأقدار قررت منحه شهادة (دكتوراه في التضميد بالإحساس)، فصار يزرق الإبر ويضمد الجروح ويأمر المرضى بالراحة بثقة يحسد عليها.

وذات يوم، في زحمة المراجعين، خلط الرجل بين قطرة العين ودواء الجروح المعروف بـ(التنتريوك) وله نفس اللون البني وسكبها في عين أحد المساكين.

صرخ المريض، وارتبك عبيد، وركض الطبيب، وارتفعت المدينة على خبر واحد:

(عينه راحت بقطرة عبيد الطبيب).

ومنذ ذلك اليوم صار المثل الشعبي جاهزًا لأي مغامرة طبية أو سياسية فاشلة:

(تسكت لو أحطلك قطرة عبيد الطبيب؟).

أما اليوم، في زمن التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي، فقد اختفى (عبيد الطبيب) ليظهر لنا جيل جديد من عبيد السياسة.

كلٌّ يحمل لقب (دكتور) أو (مستشار) أو (خبير استراتيجي) ولا يفرق بين الملف والملفوف!

يتحدث عن التنمية وهو لا يعرف جدول الضرب، ويوقّع مشاريع لا يعرف حتى كيف تُكتب كلمة مشروع!

بل إن بعضهم، كما تقول التقارير، لا يملك شهادة ابتدائية، ولكن يملك (شهادة مزورة) مع ختم وشعار رسمي !

الفرق أن عبيد الطبيب كان طيبًا، بسيطًا، يخطئ وهو يحاول أن يساعد، لا أن يسرق.

أما عبيد السياسة، فيخطئ وهو يحاول أن يستفيد، لا أن يخدم !

كم نحن بحاجة اليوم إلى صدق عبيد الطبيب وضميره، لا إلى دكاترة السياسة الذين يُحقنوننا بوعود لا تُشفى منها الأوطان حتى بـمرهم أمريكاني !