حيرة لا مفر منها
محمد الربيعي
لقد وصلت الى اوج حيرتي، وانا اقلب تعليمات صادرة عن احدى جامعاتنا الموقرة، ولا اجد لها تفسيرا مقنعا سوى انها محاولة جادة للقفز فوق اسوار المنطق، والتحليق في فضاء من المطالب الخارقة.
اتساءل جاهدا، وبصوت يعلوه الذهول: هل يعقل ان يطلب من طالب دراسات عليا في جامعة لا تملك ميزانية للبحث العلمي ان ينتج ثلاثة بحوث دفعة واحدة في قواعد بيانات «سكوبس وكلاريفيت»؟ هل هذه وصفة للابداع ام دعوة صريحة لفتح ابواب مصانع الاوراق؟ لربما ستفاجئنا الجامعة في المستقبل القريب بابتكار جديد يتيح للطلاب استنساخ البحوث بسرعة قياسية، او ربما سيكتشفون الة زمنية تمكنهم من العودة الى الماضي لنشر بحوث لم تكتب بعد.
والادهى من ذلك، كيف لبراءة اختراع محلية - وكأنها عملة نادرة من كوكب اخر - ان تعادل ثلاثة بحوث محكمة؟ السنا نرى عشرات، بل مئات من «براءات الاختراع» تذهب ادراج الرياح، لا قيمة لها سوى مظهرها الاستعراضي على صفحات الفيسبوك، حيث تصبح مادة دسمة لاعجابات الاقارب والمعارف؟ هل هذه براءة اختراع حقيقية ام «براءة اختلاق» لاتمام الشكل والمظهر؟
طرق النشر والفساد
اليس هذا الدفع الجنوني بطلابنا نحو طريق النشر الفاسد، او - لا قدر الله - السرقة العلمية الصريحة، لضمان تلبية شروط الجامعة «المعجزة»؟ هل اصبح هدف جامعاتنا تخريج باحثين حقيقيين ام مجرد سد لحاجات احصائية على الورق؟
اما عن «التشجيع على اجراء الاستشهادات فيما بين التدريسيين لغرض رفع قيمة H-index»، فهنا يبلغ الذهول ذروته وترفع رايات السخرية. هل يعقل ان نشجع على تبادل المجاملات البحثية؟ هل الهدف هو تعزيز المعرفة وتبادل الخبرات، ام مجرد نفخ «فقاعات» بحثية لرفع مؤشر قد لا يعكس حقيقة الانتاج العلمي؟ هل سيصبح الاستاذ الذي ينشر بحثا عن «التأثيرات الفسيولوجية لاستهلاك الكافيين» يدرج استشهادات من بحث زميله عن «استدامة الموارد المائية في المناطق القاحلة»؟ هذا ليس تشجيعا على البحث، بل دعوة صريحة لخلق شبكة من العلاقات العامة البحثية، حيث يصبح الهدف ليس قيمة البحث، بل عدد الاستشهادات، حتى لو كانت حشرا غير مبرر في متن البحث.
اتساءل، بقلب يعتصره الالم: لماذا لا تدفع جامعاتنا طلابها واساتذتها نحو اجراء بحوث تخدم المجتمع وتحل مشاكل الوطن وتنشر في المجلات الوطنية او المجلات المجانية النزيهة؟ اليس هذا هو الهدف الاسمى للجامعات؟ الا تدرك جامعاتنا ان البحث العلمي الحقيقي هو الذي يحدث فرقا في حياة الناس، وليس الذي يزين مواقع السوشيال او يملا فراغات السير الذاتية؟ ليت جامعاتنا تدرك ان قيمة البحث تكمن في اثره، لا في كونه «سكوبس» او «كلاريفيت» فما اكثر البحوث فيها والتي لا اهمية لها.
يبدو اننا في زمن تصبح فيه «شهادة الامتياز» حلما يشترى بالـ «سكوبس» والـ «كلاريفيت» او براءة اختراع «فيسبوكية»، بدلا من ان تكون تتويجا لجهد بحثي حقيقي يخدم العلم والمجتمع. فهل من مجيب على حيرتنا هذه، ام اننا محكومون بالاستمرار في هذا المشهد الساخر من «القفز على المعقول»؟