الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
كيفك أنت

بواسطة azzaman

كيفك أنت

كامل عبدالرحيم

 

سبقني زياد الرحباني قليلًا بموته المبكر. فمنذ أيام وأنا أفكر بالكتابة عنه. أكتب عنه وعن مرضه الغريب، مثلما هي حياته وأفكاره وأعماله وأغانيه. أفكر بأغنيته التي أدّتها أمه فيروز، وهي تضحك مدركة بأن زيادًا يقلب صفحة العالم بلحنٍ عادي وكلامٍ مرسل.

وكنت في عمّان عام 1991، وبينما أنا أتجوّل وسط البلد، واجهتني لوحة إعلان تروّج لكاسيت فيروز الجديد (كيفك أنت)، وهو ذروة تعاون زياد مع أمه، وقد شهدت علاقتهما منحنيات صعود وهبوط، وتقارب ونفور.

وتُشكّل الأغاني بالنسبة لي علامات مرور، إمّا للوقوف، أو الاستدارة، أو التريّث، أو مزيد من السرعة وربما الطيش. علامات مرور وجودية وسياسية ومصيرية.

وأوّلها كاسيت نجاة الصغيرة بالرقم 109 من تسجيلات جقماقجي عام 1979. ثم كاسيت (من غير ليه) عام 1989 في الكويت لمحمد عبد الوهاب قبيل وفاته. ثم كاسيت (كيفك أنت) لفيروز وزياد رحباني، وفيه أنزل زياد أمه من عالمها المتعدّد المعاني مجازًا وجناسًا وطباقًا إلى لغة الشارع المحكية، جارته أمه وهي تضحك، مثلما يظهر في كواليس التسجيل الذي تضمنته بكرة الكاسيت. وكان هذا الحوار بين صديقين أو حبيبين افترقا فالتقيا صدفة:

 (أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد

شو همي بالبلاد

الله يخلي الأولاد

كيفك أنت.. مِله أنت)

 (تذكر كان في وحدة متضايق منها

هيدي أمي

بتعتل همي.. منك أنت.. مِله أنت.. كيفك أنت)

 وكلامٌ مرسل يطوّب الشارع بإشارة لأكثر مراحل زياد التزامًا، وهنا بالحزب الشيوعي، وقد تضمن الكاسيت أغنية عن صديقه الشيوعي الشهيد، والذي كان يعمل عامل نظافة.

 وكان زياد مجموعة شخصيات في رجل واحد، يهرب من بيروت الشرقية نحو الغربية، فيهرب من هذه ليعود للأولى.

 وزياد مدرسة لوحده، في الموسيقى، وفي السياسة، وفي الحب، وفي الصداقة، وفي الانشقاق عن السرديات الوطنية، وفي الانتماء للوطن، في الطيران خارج عش العائلة والعودة إليها.

 وكان زياد الرحباني لا ينام أكثر من ساعتين في اليوم، ما جعله يراجع طبيب (نوم)، وربما نجح بعض علاجه فجعل ساعات نومه ثلاثًا فحسب. وفي العائلة مرض وراثي هو تسارع نبضات القلب، وقد يكون هو سبب موته. تصل ضربات قلبه إلى 130 في الدقيقة، وعندما يحاول النوم يتسارع النبض فيمنعه هذا التسارع من النوم. يقول زياد عن مرضه هذا بأن أخاه المقعد (هلي) تتسارع نبضات قلبه كحالته، وهو مقعد لا يفارق كرسيه.

 وبالأمس، عندما أُطلق سراح جورج إبراهيم عبدالله، فكّرت: هل سيلتقي بزياد الرحباني؟ وماذا وكيف سيخلّد زياد جورج عبدالله؟

 لكن الموت كان أغنية زياد الأخيرة، ولحنه الأبدي. الموت الذي ينقل زياد من اللغة المحكية، ولغة الشارع (الذي يظنه ويريده ثوريًا دائمًا)، إلى الصمت الممتد، وهو كل الكلام وأبلغه.

 (بتذكر آخر مرة شو قلتلي

بدك ظلّي بدك فيكي تفلي

زعلت بوقتها وما حلّلتها

إنو أنت هيدا أنت)

 هكذا (فلّ) زياد بكامل حريته، بعد أن غادر اللحن الشارع، وأغلقت الثورة دكاكينها. بل (فلّ) الجميع.

 وداعًا زياد.

 

 


مشاهدات 97
الكاتب كامل عبدالرحيم
أضيف 2025/08/02 - 1:06 PM
آخر تحديث 2025/08/03 - 1:02 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 411 الشهر 1861 الكلي 11276947
الوقت الآن
الأحد 2025/8/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير