حديث القلب للبحر
هدير الجبوري
أعود إليك من جديد، أيها البحر، كما يعود الوجع إلى قلب ما عرف النسيان، وكما تعود الطيور المنهكة إلى أعشاشها القديمة، لا بحثاً عن دفء، بل عن بقايا من ذاكرة. أعود إليك، وفي داخلي ضجيج لا يُسمع، وثقل لا يُرى، كأنني أحمل العالم فوق صدري. أعود وفي عينيّ ارتباك العابرين على شفا الذكرى، وفي قلبي ما لا يُقال. لا أدري كم شعوراً يسكنني، لكنه كثير… كمدّك حين يغمر اليابسة بلا استئذان، وعميق… كغموضك حين تصمت.
أنت وحدك من لا يملّ إنصاتي. لا تسأل، لا تُحاسب، لا تُعاتب. تستقبلني كما يستقبل الشاطئ هدير أمواجك كل مساء، وتُصغي كما لو أنني الحديث الأول. أحكي لك لا لأُسمَع، بل لأُخفف عن قلبي وطأة الصمت، وأرمي ما أثقلني من كلمات لم تجد لها مكاناُ في صدور الآخرين. أهرب إليك كأنك ملاذي الأخير، حين تُغلق النوافذ في وجهي، ويتكسر الضوء في عيني، وينطفئ كل رجاء. لا أريد رداً، ولا عزاء، فقط أن تكون، أن تُنصت، أن تُدرك حجم ما بي دون تفسير.
بقربك، أخلع عني كل الأقنعة، وأرتمي على صدرك الهائج بهدوء. أبكي ولا أُفسّر، أضعف ولا أُدان. لا تستغل لحظة ضعفي، ولا تُصادر خوفي، فقط تترك لي مساحتي لأكون. كم من شعور دفنته في قلبي، ظننت أنه مات، فإذا به ينهض من رماده، يلاحقني كظلّ لا يفارقني. أحمل إليك صمتي الطويل، وحيرتي العالقة، وبقايا أمنيات تهشمت في زحام الخذلان. أأحدثك عن الذين رحلوا بصمت، حين كنت أتمسك بهم بكل جهدي؟ عن من تغيروا فجأة، دون عذر ولا سبب؟ عن المسافات التي اتسعت بيني وبين من أحببت، حتى أصبحت الغربة بيننا موطناً؟ عن من وعدوني بالبقاء، لكن النهاية اختارت أن تكون غياباً؟
أيا بحر، هل لك أن تتحمّل هذا البوح الثقيل؟ هل لك أن تنصت لما لا أجرؤ على قوله لغيرك؟ هل تترك لي أن أرتّب فوضاي أمامك دون أن تخذلني؟
لم أعد أبحث عن مخرج، ولا عن حل. كل ما أريده الآن، لحظة هدوء لا يعقبها سؤال، ومكان يشبهك… لا يطلب شيئاً، لا يعد بشيء، فقط… يحتوي. أيها البحر، كن لي وطناً لا يسألني من أين أتيت، ولا إلى أين أمضي. كن حضناً حين تبرد الدنيا، وظلًا حين تشتد الشمس. دعني أبكي، دعني أتناثر، دعني أهمس… ولا تقل شيئاَ. فقط، كن هناك.