الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العلمين..  أفق جديد للتعليم

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

العلمين..  أفق جديد للتعليم

ياس خضير البياتي  

 

لطالما كنتُ من أشد المنتقدين للجامعات الأهلية في بلادنا، حيث تتملّكني قناعة راسخة بأنها مجرد مشاريع ربحية تفتقر إلى الجودة الأكاديمية، وتسهم في تدهور المشهد التعليمي العام. لم تكن هذه النظرة السلبية مجرد تكهن، بل تراكمت عبر سنوات من المتابعة لما آلت إليه بعض هذه المؤسسات من تدهور في المستوى، وتركيز على المادة على حساب العلم.

لكن زيارتي الأخيرة إلى معهد العلمين للدراسات العليا كرئيس لجنة لمناقشة إحدى الرسائل العلمية في الإعلام، كانت بمثابة نقطة تحول جذرية في هذه القناعة الراسخة، حتى بدأت تتلاشى تلك الصورة النمطية السلبية. فوجئتُ أولًا بجمال المبنى الذي يوحي بالرقي والاهتمام بالبيئة التعليمية، مع توفير بيئة محفزة للدراسة. لم يكن جمال المبنى مجرد واجهة فارغة، بل كان يتناغم مع نظام داخلي دقيق ومنظم، يوحي بجدية الإدارة وحرصها على سير العملية التعليمية بسلاسة وفاعلية.

وما زاد هذا الانطباع تألقًا، هو التقدير العميق لأساتذته، وذاك الدفء الذي يحيط بالزائرين، حيث تشعر أن المكان ليس مجرد مؤسسة تعليمية، بل فضاء يفيض بالاحترام والمودة، ويمنح كل من يدخله شعورًا بالانتماء لصرح علمي نبيل.

حين دخلت إلى قاعة الامتحان، استوقفني مشهد لم أره إلا في الجامعات الأوربية؛ الطلاب يجلسون بأريحية، وأمامهم فناجين الشاي والقهوة، في أجواء بعيدة كل البعد عن رهبة الامتحانات التقليدية. لم يكن الأمر مجرد رفاهية، بل فلسفة تعليمية تحترم العقل وتجعل من الامتحان لقاءً فكريًا لا اختبارًا قاسيًا.

رأيت كيف تتحول القاعات إلى فضاءات للإبداع، وكيف ينقلب التوتر إلى صفاء ذهني، فتولد الإجابات من استرخاء الفكر لا من صراع مع القلق. كان المشهد رسالة واضحة: التعليم ليس قيودًا وضغوطًا، بل رحلة تأمل وفهم، وحين يُمنح الطالب راحته، يتحقق التعلم الحقيقي.

وهذا ما ألهمني أن أُحيل مناقشة طالب الماجستير، وأنا رئيس الجلسة، إلى عصف فكري نابض بألفة العلم وحفاوة الفكر، حيث يتحول النقاش من مواجهة رسمية إلى حوار مفتوح، تنساب فيه الرؤى بحرية، ويتلاقح العقل مع المعرفة بلا قيود. لم يعد الطالب واقفًا أمام اللجنة كمتهم يُنتظر منه الدفاع، بل كباحث يعرض خلاصة جهده، يناقش بثقة، يُحاور لا ليُختبر بل ليُثري وينهض بالفكر العلمي. كانت الأجواء تنطق بروح استثنائية، وكأنها تهمس لكل من حضر: الفكر يزدهر بالنقاش، لا بالرهبة والتلقين. لا مكان للخوف في حضرة العلم، ولا مساحة للتعنيف في صرح المعرفة، فهنا يُحتفى بالمجهود، يُقدر السعي، ويشترك الجميع في صياغة المعرفة، لا كحكم وقانون، بل كنبض فكريٍّ يُولد من الحوار، ليبقى أثره ممتدًا في مسيرة البحث والتأمل.

النقاشات التي استمعت إليها، والمرافق التي اطلعت عليها، كلها دلت على وجود بيئة أكاديمية جادة وملتزمة بالتميز. والأهم من كل ذلك، كان لقائي بالدكتور إبراهيم بحر العلوم، المشرف العام للمعهد في ملتقاه الخاص بالفكر في الجادرية مع الزميل احمد عبد المجيد؛ رجل فكرٍ مستنير، تتجلى في حديثه قدرة استنباطية مذهلة للأحداث السياسية، يحلل خباياها ويربطها بتداعياتها المستقبلية، متجاوزًا السطح إلى العمق.

لم تكن هذه القدرة منفصلة عن جوهره، بل امتزجت برؤية تعليمية واضحة المعالم، تكشف عن فهمه العميق لمتطلبات العصر وأهمية مواكبة التطورات العالمية المتسارعة. لم يكتفِ بعبارات فضفاضة، بل قدم خارطة طريق واضحة لمستقبل أكاديمي مشرق، حيث تتجاوز رسالة الجامعة مجرد تخريج الكفاءات لتشمل بناء جيلٍ من المفكرين والمحللين القادرين على إحداث فرقٍ حقيقيٍّ في صلب المجتمع. كان وكأنه يرى ما خفي على الأبصار، ولديه بوصلة تحدد الاتجاه نحو غدٍ تعليميٍّ أفضل.

ما يزيد من أهمية المعهد هو دوره البارز في خدمة المجتمع. فبالإضافة إلى مهمته التعليمية، يقوم بتقديم حلول تطبيقية لأصحاب القرار في الدولة حول العديد من القضايا الملحة، مثل ندرة المياه، التغيرات المناخية، وأسباب الجفاف، والمياه الجوفية.

هذه الجهود ليست مجرد نظريات أكاديمية، بل هي دراسات ميدانية مدروسة تهدف إلى أن يكون المعهد جزءًا من الحلول التي تواجهها الوزارات والمؤسسات الرسمية في معالجة المشكلات الوطنية، كذلك دعم الاستراتيجيات الوطنية لمواجهة التحديات المتزايدة في المنطقة. كما يوفر منصات للخبراء والباحثين لتقديم حلول قابلة للتطبيق، مما يجعله أكثر من مجرد مؤسسة أكاديمية، بل مركزًا فكريًا يساهم في صنع القرار.

وفي غمرة الفوضى التي تعم أروقة بعض الجامعات الأهلية، والتي شوهت سمعة التعليم الخاص، يقف معهد العلمين للدراسات العليا كـمنارةٍ ساطعة، يبرهن أن الجودة والرصانة الأكاديمية ليستا حكرًا على المؤسسات الحكومية. إنه بصيص أملٍ يبعث الثقة من جديد في إمكانية بناء صروح تعليمية خاصة تخدم المجتمع بصدق وإخلاص، وتسهم في رقيه فكرًا ووعيًا.

لقد غادرتُ معهد العلمين وفي نفسي انطباعٌ يفوق التميز، وفي نفسي يقينٌ جديد: أن التعليم الحقيقي لا يُقاس بمبانيه، بل بفكر من يصنعه ويؤمن برسالته، وقدرة رسالته على إشعال شرارة الوعي وتغيير المصائر، والأثر الذي يتركه في العقل والروح، والإيمان بأن بناء الإنسان هو الغاية الأسمى.

 

yaaas@hotmail.com

 

 


مشاهدات 77
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/06/22 - 3:30 PM
آخر تحديث 2025/06/24 - 1:04 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 338 الشهر 15181 الكلي 11149835
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/6/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير