الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ما بعد النقد..  تحولات المشهد النقدي المعاصر


ما بعد النقد..  تحولات المشهد النقدي المعاصر

عادل الثامري

 

في خضم التحولات الفكرية والثقافية التي يشهدها العالم منذ نهاية القرن العشرين، برز اتجاه "ما بعد النقد"postcritique بوصفه واحدا من أهم المسارات النظرية التي تسعى لإعادة النظر في أسس الممارسة النقدية وأدواتها. لكن فهم هذا الاتجاه يتطلب تشريحًا دقيقًا للسياق التاريخي والفلسفي الذي نشأ فيه، والإشكاليات التي يسعى لمعالجتها، والخطوط النظرية المتعددة التي تتقاطع فيه.

الجذور التاريخية والفلسفية

لفهم ظاهرة "ما بعد النقد" بعمق، علينا العودة إلى ما يُعرف بـ "تأويلية الشك" التي برزت مع ماركس وفرويد ونيتشه، والذين وصفهم بول ريكور بـسادة او أساتذة الشك الثلاثة. فقد أسس هؤلاء المفكرون لنموذج قرائي يقوم على فكرة أن المعنى الظاهر للنصوص والخطابات يخفي حقائق أعمق يجب كشفها بواسطة أدوات التحليل النقدي. هذا النموذج الذي وسمه ريكور بـ "تأويلية الشك" أصبح مهيمنًا في القرن العشرين، خاصة مع تطور النظريات النقدية البنيوية وما بعد البنيوية.

لقد تبلورت هذه النزعة التشكيكية في مدارس نقدية متعددة: النقد الماركسي الذي يكشف عن البنى الاقتصادية والطبقية الكامنة في النصوص، والتحليل النفسي الذي يبحث عن الدوافع اللاواعية والمكبوتة، والتفكيكية التي تسعى إلى إظهار التناقضات الداخلية والثغرات المنطقية في الخطابات، والنقد النسوي الذي يفضح البنى الذكورية، والنقد ما بعد الكولونيالي الذي يكشف عن آليات الهيمنة الاستعمارية. شكّلت هذه المدارس النقدية معًا ما يمكن تسميته بـ "النموذج المهيمن" في النقد الأكاديمي منذ ستينيات القرن العشرين. ومع أن هذا النموذج قدّم إسهامات كبيرة في فهم النصوص والظواهر الثقافية، إلا أنه أصبح مع الوقت نوعًا من العقيدة النقدية الراسخة التي تفرض قوالب جاهزة على النصوص، وتحوّل القراءة النقدية إلى عملية آلية متكررة تصل دائمًا إلى النتائج نفسها.

الوعي النقدي بأزمة النقد

لقد بدأت تظهر علامات الأزمة في النموذج النقدي المهيمن منذ تسعينيات القرن العشرين، مع تنامي الوعي بما يمكن تسميته "الاستنفاد المنهجي" للقراءة المشككة. يشير مصطلح الاستنفاد المنهجي (Methodological Exhaustion) إلى حالة من الإنهاك أو التكرار في استخدام منهج نقدي معين إلى درجة يفقد معها هذا المنهج قدرته على الكشف أو الإضافة الجديدة، ويصبح أداة استهلاكية أكثر من كونه أداة إنتاج معرفي. ويعكس هذا المصطلح إدراكًا متناميًا بأن هذه المقاربات، رغم فاعليتها في مراحل سابقة، بدأت تُكرر ذاتها وتُسقط الأحكام المسبقة النصوص، وتُفسّرها ضمن أطرها الجامدة، مما أفقدها مرونتها وقدرتها على استيعاب تعقيد النصوص وتعدديتها. وبذلك، يُعبر الاستنفاد المنهجي عن شعور عدد من النقاد والمنظرين بأن الأدوات النقدية المهيمنة باتت عاجزة عن توليد أسئلة جديدة أو فهم الظواهر الأدبية خارج قوالبها الجاهزة، وأنها بلغت أقصى طاقتها التفسيرية، الأمر الذي يستدعي مراجعة جذرية للنموذج النقدي نفسه.

وقد عبّر عدد من النقاد والمنظرين عن هذا الوعي بأزمة النقد، منهم:

بول ريكور نفسه الذي دعا في كتاباته المتأخرة إلى تجاوز تأويلية الشك نحو ما أسماه "تأويلية الإصغاء" التي تستعيد البعد الإيجابي للنص والتجربة الجمالية.

جيل دولوز الذي انتقد في كتاباته المتأخرة الطابع السلبي للنقد المعاصر، ودعا إلى استبداله بما أسماه "فلسفة الإثبات" التي تهتم بإبداع المفاهيم وفتح آفاق الفكر بدلاً من النقد والتفكيك.

برونو لاتور الذي أثار في مقالته الشهيرة "لماذا فقد النقد قوته؟"(2004) Pourquoi la critique a-t-elle perdu de sa force ?  سؤالاً استفزازيًا: هل أصبح النقد قديمًا كالأثاث المستعمل؟ وهو يلاحظ أن أدوات النقد التشكيكي التي طورها اليسار الأكاديمي أصبحت تُستخدم من قبل اليمين المتطرف في تشكيكه بالعلم والحقائق العلمية.

إيف كوسوفسكي سيدغويك التي لاحظت في مقالتها "القراءة الارتيابية والقراءة التصالحية" (2003) أن النقد المعاصر أصبح مهووسًا بفضح الخطابات وكشف تناقضاتها، وهو ما وصفته بـ "الارتياب النقدي".

مهدت هذه الأصوات وغيرها الطريق لظهور اتجاه "ما بعد النقد" في محاولة للخروج من مأزق النقد التشكيكي، واستعادة أبعاد أخرى في علاقتنا بالنصوص والظواهر الثقافية.

التيارات الرئيسية

يمكن تمييز عدة تيارات رئيسية داخل اتجاه "ما بعد النقد"، رغم تداخلها وتشابكها:

تيار "القراءة العاطفية"

تمثله بشكل خاص ريتا فيلسكي التي تدعو في كتابها "حدود النقد" (2015) إلى استعادة البعد العاطفي في القراءة النقدية. ترى فيلسكي أن النقد المعاصر تعامل مع النصوص باعتبارها موضوعات للتحليل والتفكيك، وأهمل البعد الذاتي والعاطفي في تجربة القراءة. وتقترح مقاربة بديلة تعتمد على ما أسماه الناقد الألماني مارتن سيل بالجماليات الاتصالية والتي تهتم بكيفية تأثير النصوص فينا عاطفيًا وجماليًا.

تستعيد فيلسكي مفاهيم مثل "الافتتان" و"الجاذبية" و"الانخراط" و"الصدمة" كمفاهيم أساسية في تجربة القراءة، وترى أن هذه المفاهيم تم تهميشها في النقد المعاصر لصالح مفاهيم أخرى مثل "الإيديولوجيا" و"الهيمنة" و"التفكيك". وهي لا تدعو إلى التخلي عن الوعي النقدي، بل إلى إعادة توازن المشهد النقدي عن طريق إعادة الاعتبار للبعد العاطفي والجمالي في تجربة القراءة.

 تيار "القراءة التصالحية"

تبلور هذا التيار مع أعمال إيف كوسوفسكي سيدغويك التي قدمت مفهوم "القراءة التصالحية" كبديل لـ "القراءة الارتيابية" السائدة في النقد المعاصر. القراءة الارتيابية، حسب سيدغويك، هي قراءة مهووسة بكشف الأبعاد السلبية للنص وفضح تواطؤه مع أنظمة السلطة والهيمنة. أما القراءة التصالحية فهي قراءة تبحث عن الإمكانات الإيجابية في النص، وتسعى إلى الافادة منه في بناء تجارب جمالية وفكرية مغايرة. ويرتبط هذا التيار بالدراسات الكويرية والنسوية، لكنه يتجاوز السياق الجندري ليقدم رؤية نقدية شاملة. وقد تأثر به عدد من النقاد المعاصرين، مثل خوسيه إستيبان مونيوز وهيذر لوف، اللذين طورا مفهوم "القراءة التصالحية" في سياقات مختلفة.

تيار "النقد المادي الجديد"

يضم هذا التيار منظرين مثل هانس أولريش غومبريشت وجين بينيت وغيرهما ممن يركزون على البعد المادي للتجربة الجمالية. يتجاوز هذا التيار الاهتمام التقليدي بالمعنى والتأويل، ويوجه اهتمامه إلى ما يسميه غومبريشت "آثار الحضور"، وهي الآثار المادية والحسية التي تنتجها النصوص والأعمال الفنية. ويرى أنصار هذا التيار أن النقد المعاصر انشغل كثيرًا بقضايا المعنى والتأويل، وأهمل البعد المادي والحسي للتجربة الجمالية. ويقترحون مقاربة بديلة تأخذ في الاعتبار "مادية" النص والعمل الفني، وتأثيرهما المباشر على أجسادنا وحواسنا، وليس فقط على عقولنا وأفكارنا.

 تيار "الأنثروبولوجيا الثقافية "

يتمثل هذا التيار في أعمال برونو لاتور وميشيل سير وغيرهما ممن يقترحون مقاربة أنثروبولوجية للظواهر الثقافية. يرفض هؤلاء المنظرون ما يسمونه "النقد الكلي" الذي يضع النصوص والظواهر الثقافية في قوالب نظرية جاهزة، ويدعون إلى مقاربة أكثر تفصيلية وتعقيدًا تأخذ في الاعتبار خصوصية كل ظاهرة وسياقها الثقافي والاجتماعي. ويقترح لاتور مفهوم "تجميع الاجتماعي" كبديل لمفهوم "النقد الاجتماعي" التقليدي. ويدعو إلى مقاربة تهتم بتتبع الشبكات والعلاقات المعقدة بين مختلف العناصر (البشرية وغير البشرية) التي تشكل الظواهر الثقافية والاجتماعية، بدلاً من اختزالها في أطر نظرية مسبقة.

تيار "القراءة المتأنية الجديدة"

يتمثل هذا التيار في أعمال تيموثي كلارك وديريك أتريدج وآخرين ممن يسعون إلى إعادة تأهيل مفهوم القراءة المتأنية في سياق ما بعد النقد. إذا كانت القراءة المتأنية التقليدية، المرتبطة بالنقد الجديد، قد ركزت على البنى اللغوية والأسلوبية للنص، فإن القراءة المتأنية الجديدة تنفتح على الأبعاد الأخلاقية والوجودية للنص، وتتيح مساحة للتأمل والحوار بين القارئ والنص. ويقترح ديريك أتريدج في كتابه "فرادة الأدب" (The Singularity of Literature) مفهوم "القراءة المُضّيفة" التي تستقبل النص في فرادته وتفتحه على إمكانات متعددة، بدلاً من إخضاعه لقوالب نظرية مسبقة. وهو يرى أن الأدب، في أفضل تجلياته، هو "حدث" يمكن أن يغير من علاقتنا بالعالم وبأنفسنا، وليس مجرد موضوع للتحليل والنقد.

نحو أفق نقدي جديد

إن اتجاه "ما بعد النقد" ليس نهاية للنقد، بل هو فتح لأفق نقدي جديد يتجاوز حدود النقد التقليدي دون التضحية بمكتسباته. وهو ليس مدرسة متجانسة أو نظرية موحدة، بل هو فضاء مفتوح للتجريب والبحث عن سبل جديدة للتعامل مع النصوص والظواهر الثقافية. ويمكن القول إن أهم ما يميز هذا الاتجاه هو قدرته على تجاوز الثنائيات التقليدية التي هيمنت على النقد المعاصر: ثنائية الذاتية والموضوعية، ثنائية النص والسياق، ثنائية الفرد والمجتمع، ثنائية الأخلاق والسياسة، ثنائية الجمال والإيديولوجيا. ويقترح بدلًا من ذلك رؤية أكثر تعقيدًا وتنوعًا للعلاقة بين هذه الثنائيات، رؤية تتجاوز المقاربات الاختزالية والتبسيطية.

إن "ما بعد النقد" يقدم لنا فرصة لإعادة التفكير في علاقتنا بالنصوص والظواهر الثقافية، وفي دور النقد في المجتمع المعاصر. وهو يدعونا إلى تجاوز النماذج النقدية الجامدة نحو مقاربات أكثر انفتاحًا وتعددية، مقاربات تستعيد الأبعاد العاطفية والأخلاقية والجمالية في علاقتنا بالثقافة، دون التضحية بالوعي النقدي والفكري.

وفي ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها الثقافة المعاصرة، وفي ظل أزمة النقد التقليدي وعجزه عن مواكبة هذه التحولات، يبدو اتجاه "ما بعد النقد" أحد اهم المسارات الواعدة لتجديد الخطاب النقدي وفتح آفاق جديدة للتفكير والتأويل.

 


مشاهدات 47
الكاتب عادل الثامري
أضيف 2025/05/13 - 3:09 PM
آخر تحديث 2025/05/14 - 7:54 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 392 الشهر 17005 الكلي 11011009
الوقت الآن
الأربعاء 2025/5/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير