الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أدب الرحلة بين يدي الساحرة:وفاء عبد الرزاق تبحر بنا خارج الخرائط


أدب الرحلة بين يدي الساحرة:وفاء عبد الرزاق تبحر بنا خارج الخرائط

 

شيخ عماد الدين 

 

 

تُعد وفاء عبد الرزاق من الأصوات الأدبية العراقية التي أعادت صياغة أدب الرحلة، محوّلةً إياه من مجرد وصف جغرافي وتاريخي إلى فضاء إبداعي يمزج الفنتازيا بالشعرية والتحليل النفسي العميق. في روايتها الرائدة "بين بغداد وظلي"، تكسر عبد الرزاق الحدود التقليدية للرحلة الأدبية، مقدمةً عملاً ينبض بالابتكار، حيث تتداخل أساليب ما بعد الحداثة مع لغة شعرية مكثفة واستبطان نفسي غير مسبوق في هذا الجنس الأدبي. هذه المقالة تستكشف كيف نجحت عبد الرزاق في تجديد أدب الرحلة، مُدخلةً إليه أبعاداً جديدة تجمع بين الخيال والواقع والنفس البشرية.

من التقليد إلى الفنتازيا:

 إعادة اختراع أدب الرحلةتقليدياً، ارتبط أدب الرحلة بتدوين المشاهدات المباشرة للرحالة، كما نرى في أعمال ابن بطوطة أو ابن جبير، حيث كانت الجغرافيا والتاريخ هما العمود الفقري للنص. لكن وفاء عبد الرزاق، في "بين بغداد وظلي"، تتجاوز هذا الإطار، مُدخلة الأسلوب الفنتازي الذي يُحرر الرحلة من قيود الواقع. في الرواية، لا تقتصر الرحلة على تنقل مكاني بين بغداد ومدن أخرى، بل تصبح رحلة داخلية عبر طبقات النفس والخيال. تُشكّل الفنتازيا هنا أداةً لاستكشاف الحدود بين الحقيقة والوهم، حيث تُنسج الأحداث في إطار يمزج الواقع التاريخي للعراق بالصور السريالية التي تعكس الاضطرابات النفسية والاجتماعية.على سبيل المثال، تصوّر عبد الرزاق بغداد ليست فقط كمدينة مادية، بل كرمز نفسي وثقافي يتجسد فيه الصراع بين الماضي والحاضر. هذا التحول من الوصف التقريري إلى التخييل الفنتازي يتماشى مع أساليب ما بعد الحداثة، التي تُعطي الأولوية للتعددية والتفكيك، مما يجعل النص مفتوحاً لتأويلات متعددة.

اللغة الشعرية:

 موسيقى النص وجمالياتهإحدى أبرز إسهامات عبد الرزاق في أدب الرحلة هي لغتها الشعرية المبتكرة، التي تُضفي على النص إيقاعاً موسيقياً وكثافة عاطفية. بعيداً عن النثر التقريري الجاف، تستخدم عبد الرزاق لغة مشبعة بالصور البلاغية والاستعارات، مما يجعل القارئ يعيش تجربة حسية وفكرية في آن. في "بين بغداد وظلي"، تصبح اللغة جسراً يربط بين الواقع المادي والعالم الداخلي للشخصيات، حيث تتدفق الجمل كقصائد نثرية تعكس الحنين، الألم، والبحث عن الهوية.على سبيل المثال، تصف عبد الرزاق المدينة بأنها "نبضٌ يتكسر في شرايين الذاكرة"، وهي صورة شعرية تجمع بين الحس المكاني والعمق النفسي. هذه اللغة لا تخدم الجمالية فحسب، بل تعزز البعد السيكولوجي للنص، حيث تُترجم العواطف المعقدة إلى صور بصرية وصوتية تخاطب اللاوعي.

السيكولوجية: 

رحلة داخل النفسما يميز "بين بغداد وظلي"، ويجعلها أول رواية رحلية تُعالج السيكولوجية بالعمق، هو تركيزها على الصراعات الداخلية للشخصيات. عبد الرزاق لا تكتفي بوصف الأماكن، بل تستكشف كيف تؤثر هذه الأماكن في النفس البشرية. في الرواية، تُصبح بغداد مرآة للذات، حيث تعكس المدينة بتاريخها المضطرب وجمالها الجريح حالة الشخصيات النفسية. هذا النهج يُحاكي أساليب ما بعد الحداثة، التي تُركز على التشتت والذاتية، لكنه يتجاوزها بإدخال تحليل نفسي يقترب من أعمال فرويد أو يونغ.تُظهر الشخصيات في الرواية صراعاً بين الذات والآخر، بين الحنين إلى الماضي والخوف من المستقبل، وهو ما يتجلى في حوارات داخلية وتداعيات نفسية مكتوبة بلغة شعرية. هذا الدمج بين السيكولوجية والشعرية يخلق تجربة قراءة فريدة، حيث يشعر القارئ أنه يسافر داخل عقول الشخصيات بقدر ما يسافر عبر المدن.

ما بعد الحداثة: 

تفكيك الرحلة وإعادة بنائهاتتبنى عبد الرزاق في روايتها أساليب ما بعد الحداثة، مثل التعدد السردي، التشتت، واللعب بالزمن والمكان. في "بين بغداد وظلي"، لا تتبع الرحلة خطاً زمنياً أو مكانياً تقليدياً، بل تتشظى إلى لحظات وذكريات تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة. هذا التفكيك يعكس الطبيعة المعقدة للهوية العراقية في ظل الحروب والنزوح، كما يمنح النص طابعاً تجريبياً يتحدى توقعات القارئ.كذلك، تستخدم عبد الرزاق تقنيات مثل السخرية والتداخل النصي، حيث تُدمج الشعر والنثر والحوارات الفلسفية في نسيج واحد. هذه الأساليب تجعل الرواية متعددة الطبقات، قادرة على مخاطبة جمهور واسع من القراء، سواء الباحثين عن الجمال الأدبي أو المهتمين بالفكر والنقد.

الخلاصة: إرثٌ جديد لأدب الرحلةوفاء عبد الرزاق، من خلال "بين بغداد وظلي"، لم تكتفِ بتجديد أدب الرحلة، بل أسست لمدرسة جديدة تجمع بين الفنتازيا، الشعرية، السيكولوجية، وأساليب ما بعد الحداثة. روايتها ليست مجرد نص أدبي، بل تجربة إنسانية عميقة تُعيد تعريف مفهوم الرحلة كسفر داخلي وخارجي في آن. بفضل لغتها المبتكرة وبصيرتها النفسية، تُثبت عبد الرزاق أن أدب الرحلة يمكن أن يكون فضاءً للإبداع غير المحدود، مما يجعلها واحدة من أهم الأصوات الأدبية المعاصرة.إن هذا العمل يستحق أن يُقرأ ويُناقش، ليس فقط لجمالياته، بل لأنه يُظهر كيف يمكن للأدب أن يحمل صوت الإنسان في أصعب الظروف. وفاء عبد الرزاق، بقلمها الشاعري وخيالها الجامح، تأخذنا في رحلة لا تُنسى، بين بغداد وظلالنا الخاصة.

 

باحث في قسم اللغة العربية ،جامعة عالية،كلكاتا،الهند 


مشاهدات 72
الكاتب شيخ عماد الدين 
أضيف 2025/05/10 - 1:32 AM
آخر تحديث 2025/05/10 - 5:52 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 344 الشهر 11593 الكلي 11005597
الوقت الآن
السبت 2025/5/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير