الإقتراح المريب والراية العالية
فؤاد مطر
في رئاسته الأُولى حيث لم يحالفه التجديد كالذي ناله رؤساء سبقوه معظمهم وكانوا أكثر هدوءاً في التخاطب وتهدئة الأزمات، لم يسجل الرئيس دونالد ترمب موقفاً إستنهاضياً للدولة وللكرامة الوطنية على نحو ما سجله الرئيس جمال عبدالناصر رحمة الله عليه في السنوات الثلاث الأولى من «ثورة 23 يوليو 1952» حيث أنه عدا تقوية ساعد مؤسسة الجيش الذي به قام بالثورة تلك يشد من عضده رفاق سلاح في تلك المؤسسة، خطَّط وسعى وثابر من أجْل إستعادة قناة المصريين جزءاً من بنيانهم الاقتصادي.
ولأن في الإستعادة مخاطر فإن عبدالناصر إستند، وهو يتوقع ذلك حرباً بريطانية – فرنسية – إسرائيلية على مصر، على المولى عزَّ وجلَّ وعلى أن شعب مصر سيكون عند حُسن تقييم زعيمه الذي نقل بثورة 23 يوليو 1952 مصر من الحُكم الملكي الفاروقي إلى عهد جديد. ولأن النوايا وطنية فإن الله يرزق حسب صِدْقها فإن هذا ما حدث ذلك أن المصريين شعروا بإعتزاز وطني لا مثيل له بعدما أعلن عبدالناصر في ذلك الخطاب – الوقفة الوطنية التاريخية يوم 26 يوليو تأميم قناة السويس، مؤكداً في خطوته تلك أن الحق يعلو ولا يعلى عليه وأن صاحب هذا الحق يجب ألا يستكين ما دام هذا الحق مصادَراً. وهذا راهناً حق الشعب الفلسطيني في إستعادة وطنه المحتل منذ العام 1948 وعتب هذا الشعب على بعض أطياف سياسية عربية وإسلامية ودولية لأنها لا تأخذ بساعده لكي يستعاد الوطن وبعدها لا أحزاب ولا ثورات ولا تنظيمات ولا مغامرات نضالية غير محسوبة بدقة، كتلك التي تفاداها عبدالناصر عندما وضع الموقف تحت المجهر ثم سار في هدى ما فعل، متحملاً من أجل إستعادة سيادة مصر على قناة السويس أي مخاطر إنتقامية من جانب الذين إعتبروا قناة المصريين من ممتلكاتهم.
كان تأميم قناة السويس نقطة التحول في مسيرة العمل الوطني والتجربة الثورية المصرية وتاريخ عبدالناصر على مدى ثماني عشرة سنة، ثم إرتأى الرئيس أنور السادات رحمة الله عليه أن يقلب الصفحة وإلى درجة إنتزاعها من كتاب تاريخ تلك المرحلة.
في أي حال تبقى المواقف المضيئة في تاريخ الوطن على إضاءتها وإن خفَ الضوء بعض الشيء.
مئة يوم
فجأة يباغت الرئيس دونالد ترمب ومن قبْل أن يختم المئة يوم الأولى من رئاسته الصاخبة، الأمة العربية ومعها الأمة الإسلامية وسائر الدول الصديقة للأمتين، بما ليس من المنطق في شيء، فضلاً عن أنه يشرِّع الأبواب أمام حذر المصريين المتنعمين بالإنفتاح الذي بدأه السادات ويتواصل مع الذين خلفوه في الترؤس من السلوك الأميركي. ونرى الرئيس ترمب في قرار برسم التنفيذ يعلن في منشور على منصة «تروث سوشيال» للتواصل الاجتماعي أنه ينبغي السماح للسفن الأميركية سواء الحربية والتجارية بالمرو مجاناً عبْر قناة بنما وقناة السويس وأنه طلب من وزير خارجيته «التعامل مع الوضع على الفور». وأما ذريعة ترمب في ما يخص قناة السويس فهي أن الولايات المتحدة تدافع عن مصر الدولة والقناة. من الجائز الإفتراض أن المئتي مليون مصري الذين هم شعب مصر لن يستكينوا في الحرص على قناتهم ليس فقط لأنها مصدر دعم لإقتصادهم من خلال عوائد المرور التي بين أربعة وخمسة مليارات ما يدعم العملة الوطنية والمشاريع التي تخفف من وطأة عيش المئتي مليون، وإنما لأن ما يقوله الرئيس ترمب هو عملياً نوع من الاحتلال لسيادة القناة، فضلاً عن أنه تبهيت للرصيد الذي حققه عبدالناصر بتأميمه القناة.
في أي حال لا نتصور هنالك إستهانة على المستويين الرسمي والشعبي في مصر بهذا التوجه الأميركي، الذي بين سطوره تبهيت الحقبة الوطنية التي أحدثها عبدالناصر وتذْكره الأجيال العربية بالتقدير.
عائد مفقود
كما لا نفترض أن هذا التوجه من جانب الرئيس الأميركي سيحقق له القبول من نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي وعلى قاعدة «مكره أخاك المصري لا بطل». وقد تكون طبيعة التشاور الذي لا يتم الإفصاح عن طبيعته هو أن ترمب يعرض تفادياً لوضع ما باغت به مصر والعالم موضع التنفيذ القبول بما يرتأيه وبالتنسيق مع حليفه نتنياهو وأن ما يتعلق بالعائد الملياري المفقود يمكن علاجه في مرحلة لاحقة من التشاور مع مصر..
إنما بعد أن ترتضي قيادتها الإقتراح المريب للرئيس ترمب بتهجير ما يتبقى من سكان بلدات ومدن وخيام قطاع غزة إلى العيش في مصر والأردن.. لا قدَّر الله حدوث ذلك كي تبقى الراية المصرية عالية ولا تنتكس.