الكرخاء مسيرة في الخليج العربي.. التحليل الادبي لرحلة اللامي
حمدي العطار
توقفت راحلته عند المحطة الأخيرة في رحلته الى الكرخاء ، بلدته الأثيرة ، ومدينة أجداده الأقدمين ، بعد أن خطّطَ لها طيلة هذه السنوات السبعين من عمره، ليزور ضريح والده الذي رحل عن هذه الدنيا من دون ان يحمل تابوته، كما تقتضي أعراف شعب الكرخاء.
لم يكن احد ينتظره. ولم يرَ في مبنى المحطة الأخيرة ايّ إنسان، كما لم يشاهد أي حيوان أليف أو مفترس . رأى ـ فقط ـ بقايا صورة سياحية لنخلة معمّرة، وإعلاناً عن رغوة صابون تساعد الرجل في إزالة شعر عانة الرجل بسرعة قياسية، وذروقاًً لذباب ، وبرازاً لسحليّات على جدران متهالكة لم يعد لها لون مميز بعد ان مرّ عليها الزمن بنعاله.
خطرت له ـ الآن ـ فكرة العودة الى مدينته الثانية. وحين أخذ يعدّل من وضع سرواله ، بعد أن تبوّل في مرحاض جانبي ، وقع بصره على صورة في المرآة المقابلة لوجهه ، لوجه يشبه وجهه في صورة شمسية قديمة له كانت ملصقة على الصفحة الثانية في دفتر سفره الأول.
ظلُّ الوجه الذي يشبه وجهه في الصورة الشمسية القديمة الملصقة على الصفحة الثانية في دفتر سفره الأول، ينظر طويلاً الى وجهه كما لو أنه يريد أن يخبره بسرٍٍّ خاص ، فشعر بجسده تصيبه برودة شديدة ، وأخذته نوبة تعرّق مفاجئة ، ثم غمغم الوجه قبل ان يستدير مسافراً في عمق مرآة المرحاض :”اتبعني . إنتهت رحلة الكرخاء”.
جمعة اللامي
الخليج العربي
12 / 2 / 2015
المقدمة
في “رحلة الكرخاء”، يقدم الكاتب جمعة اللامي نصًا قصصيًّا قصيرًا، لكنه مكثف الدلالة، يحمل في طيّاته تأملًا عميقًا في جدلية الإنسان والمكان، والوجود والغياب، والحضور الرمزي للذاكرة. ليست الرحلة إلى الكرخاء مجرد عودة جغرافية إلى البلدة الأصل، بل هي سفر داخلي في دهاليز النفس البشرية، واستدعاء مرير لتفاصيل الاغتراب، والحنين، والموت، والانبعاث الرمزي. نصٌ يُثير القارئ بأسئلته المفتوحة، وبنائه الفني المركّب، ليشكل بذلك تجربة سردية وجودية فريدة.
*التحليل الأدبي:
يعتمد النص في بنيته على أسلوب السرد التأملي، حيث تمتزج العناصر الواقعية بالعوالم الرمزية، لتتشكل “الكرخاء” كمكانٍ أسطوريٍّ يعبّر عن الحنين، والفقد، والانتماء الملتبس. توقُّف البطل عند المحطة الأخيرة لا يمثل مجرد نهاية لرحلة عمره، بل لحظة كشف حاسمة يواجه فيها ذاته العميقة، وتاريخه الشخصي، وكل ما حاول الهروب منه.
تغيب الحياة في الكرخاء، فلا بشر، ولا حيوانات، بل إشارات مهترئة لحياة كانت، وتفاصيل عبثية تفضح التهالك والتدهور، وكأن المدينة نفسها لفظت أنفاسها الأخيرة. يُقابل هذا الغياب حضورٌ مكثّف للذاكرة، ولصورة قديمة تنعكس في المرآة، حيث تتجلى المفارقة بين ما كان وما صار، وبين الذات الأصلية والذات المُتآكلة. اللحظة التي يتأمل فيها البطل وجهه الشبيه بوجهه القديم تمثل ذروة النص، إذ تنفجر الرمزية ويتحول المشهد إلى تأمل صوفيّ في الهوية والزمن والموت.
اللغة المستخدمة تأتي مشحونة بالإيحاءات، وتقوم على الجملة القصيرة المقتضبة، لكنها غنية بالمعنى، تنقل الشعور بالعجز، والضياع، والتفكك. كما يعكس توظيف “المرآة” و”الصورة الشمسية” و”المرحاض” أدوات سردية تحمل أبعادًا رمزية مكثفة، تحيل إلى تطهير الذات، والعودة إلى الأصل، والانفصال عن الجسد الزائل.
من الناحية الفنية، ينتمي النص إلى تيار الكتابة الحديثة التي تمزج بين السرد والتأمل، وبين الحلم والحقيقة، وتترك مساحات واسعة للقارئ في إعادة إنتاج المعنى. رحلة البطل تنتهي لا ببلوغ الهدف، بل بنداء غامض يدعوه للرحيل من جديد، مما يجعل النهاية مفتوحة على احتمالات فلسفية عدة: هل الرحلة هي الحياة؟ أم الموت؟ أم مجرّد حلم داخل حلم؟
الخاتمة
بهذا النص، يُقدّم جمعة اللامي تأملًا سرديًّا فريدًا في سؤال الإنسان الأول: من أنا وأين أنتمي؟ “رحلة الكرخاء” ليست مجرد قصة قصيرة، بل تجربة وجودية عميقة، ترصد لحظة انكسار الذات في مرآة العمر، وتوثّق مواجهة صامتة بين الإنسان وظله. وبين البداية والنهاية، تنكشف الحقيقة البسيطة والمؤلمة: لا مكان ينتظرنا، ولا ماضٍ يمكن استعادته، فكل الرحلات ما هي إلا رجعُ صدى لبحثٍ أبديّ عن الذات، في عالمٍ يتآكل ببطء، ويبتلع ملامحه بنعاله الثقيلة.